من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

الشريف الرضي في مجالس المجون!! (1)

يقول الحصري: «شرب كوران المغني عند الشريف الرضيّ؛ فافتقد رداءه، وزعم أنّه سُرق. فقال له الشريف: ويحك، من تتهم منّا؟ أما علمت أنّ النبيذ بساط يطوى ما عليه؟!.. قال: انشروا هذا البساط، حتى آخذ ردائي، واطووه إلى يوم القيامة» (1).

 

مناقشات قابلة للرد:

ونقول: إنّنا في مجال مناقشة هذا النص، لا نريد أن نتوقف كثيراً عند الأمور التالية:

أ - إنّ الحصري لم يذكر لنا سند هذه الرواية، ولا أعرب عمّن نقلها عنه. وقد يمكن الاعتذار عنه: بأنّ من الممكن أن يكون الحصري، قد نقل ذلك عن ثقة، لا يعتمد الكذب والوضع.. كما أنّه لم يأخذ على عاتقه أن يذكر أسانيد الروايات في كتابه..

ب - ولا نريد أن نناقش في حرمة النبيذ؛ فنقول: إنّ حرمته غير مسلمة لدى جميع الفقهاء.. إذ إنّ الشريف «رضوان الله تعالى عليه» قد كان من طائفة الإماميّة الذين يرون حرمة النبيذ، كسائر أنواع الخمر..

ج - ولا بأنّ هذا النص لم يتضمن مشاركة الشريف الرضيّ «رحمه الله» في الشرب. إذ إنّ مجرد كون مجلس الشراب في بيته، وحضوره فيه، كاف في إثبات الإدانة له.

د - ولا بأننّا رغم بحثنا الجاد، لم نعثر على ذكر لكوران المغنيّ هذا، الذي ورد اسمه على أنّه بطل هذه الحادثة. إذ قد يمكن الجواب عن ذلك؛ بأنّ عدم ذكره في غير هذه الحادثة، لا يدلّ على عدم وجوده، فضلاً عن أنّ البحث والتنقيب قد يؤدي إلى العثور على شيء ممّا يرتبط به.

ه‍ - ولا نريد أيضاً: أن نقول - كما يقول البعض -: «إنّ الرضيّ لا يشغل بنقاش مع كوران المغنيّ، من أجل ثوب مسروق، ولا يعقل أن يظن كوران بالشريف - مع جلالة قدره وعظم محله - أو أحد جلسائه، أنه سرق الثوب. إنّ هذا لو قيل في مجالس الفتاك والصعاليك؛ لكان له محل من التصديق، أمّا في مجلس الرضيّ، فلا يرد مثل هذا..» (2).

إذ قد يجاب عن ذلك: بأنّ الخبر قد سيق على سبيل الدعابة، وهي لا تأبى عن ذلك كلّه.. لا.. لا نريد أن نتوقف عند كل ما ذكرناه، ولا أن نصرّ عليه، على اعتبار أنّه كلّه أو بعضه كاف في وهن هذه الرواية، وعدم اعتبارها. وإنّما نريد هنا: أن نلقي نظرة سريعة على واقع وأخلاقيات السيد الشريف الرضيّ «رضوان الله تعالى عليه»، لنرى: إن كانت تنسجم مع اشتراكه في مجالس كهذه، أو لا..

ولا نريد أن نتشبث هنا بما يذكره كل من ترجم للشريف، حيث يؤكدون بما لا مزيد عليه، على إبائه، وعزّة نفسه، وطموحه إلى جلائل الأعمال، وعظائمها، وتحلّيه بمحاسن الأخلاق وكرائمها، وترفّعه عن كل مهين، وتجنّبه كل مشي ، وما إلى ذلك..

فلربما يقال: إنّ هذا كله لا يتنافى مع صدور ذلك منه «رحمه الله تعالى»؛ فإنّ شرب النبيذ، والحضور في مجالسه، لم يكن عيباً، ولا هو مخل بالمروءة، ولا مهيناً للكرامة، بعد أن كان الأعيان والأشراف، وحتى الخلفاء يمارسون ذلك، ولا يأبون عنه، ولا يرون فيه أي محذور..

 

المناقشة المعقولة:

وإنّما نريد أن نشير إلى ما يلي:

أولاً: إنّ الشريف الرضيّ «رضوان الله تعالى عليه»، كان منزهاً عن مثل هذه الأعمال لأنّه كان ورعاً، متديناً، ملتزماً بالدين وقوانينه، حيث يقولون عنه: إنّه: «كان صاحب ورع وعفة، وعدل في الأقضية، وهيبة في النفوس» (3).

وإنّ: «أمره في العلم والفضل، والأدب، والورع، وعفة النفس، وعلو الهمّة، والجلالة، أشهر من أن يذكر» (4).

وإنّه كان: «عالي الهمة متديناً، إلا أنّه كان على مذهب القوم، إماماً للشيعة، هو، وأبوه، وأخوه..» (5).

وإنّه: «الشاعر، العالم، الزاهد» (6).

و - «إنّ المتتبع لحياة الرضيّ، لا يستطيع أن يجد مغمزاً في دينه، فلم يؤثر عنه: أنّه انتهك حرمة من الحرم، أو أخذ فيما كان يأخذ فيه الناس في ذلك العهد، من متاع الدنيا، حيث يتجاوزون ما أحلّه الله إلى ما حرّمه» (7).

وإنّه كان: «.. فاضلاً، عالماً، ورعاً، عظيم الشأن» (8).

وإنّ: «فيه ورع، وعفة، وتقشف» (9).

ويقول عنه ابن الجوزي: «.. كان عالماً، فاضلاً، وشاعراً مترسلاً، عفيفاً، عالي الهمة، متديناً» (10).

ويقول المعتزلي الحنفي: «كان عفيفاً، شريف النفس، عالي الهمّة، ملتزماً بالدين وقوانينه» (11).

وأخيراً.. فقد قال عنه الخونساري: «كان في غاية الزهد والورع صاحب حالات ومقالات وكشف وكرامات..» (12). ثمّ ذكر قصة جرت بينه وبين أخيه السيد المرتضى «رحمه الله تعالى»، ملخصها: أنّه اقتدى يوماً بأخيه المرتضى في بعض صلواته؛ فلمّا دخل في الركوع قطع الاقتداء به، وقصد الانفراد، فسئل عن سبب ذلك؛ فقال: إنّه لـمّا دخل في الركوع رأى أخاه الإمام يفكر في مسألة من مسائل الحيض، وقلبه متوجه إليها، وهو يغوص في بحر من الدم.

وفي نص آخر: إنّه قال لأخيه، بعدما فرغ من الصلاة: لا أقتدي بك بعد هذا اليوم أبداً..

فسأله عن سبب ذلك فأخبره؛ فصدقه المرتضى وأنصف، والتفت إلى أنّه أرسل ذهنه أثناء تلك الصلاة في مسألة من مسائل الحيض، كانت سألته عنها بعض النسوة، في أثناء مجيئه إلى الصلاة..» (13).

ولكن الدكتور الحلو، يقول عن هذه الحادثة ما يلي:

«وهذا خيال مجنح لفّقه حوله من ظنّ: أنّه لا قدر للرجال إلا إذا سيقت في سيرتهم الكرامات، ولو كانت على هذا النحو المقزز، من ذكر الدماء، والصراخ، والعويل» (14).

ولكننا نقول: إنّ ما ذكره لا يبرر إنكاره لهذه الحادثة من أساسها؛ فإنّ إضافة بعض الكلمات غير المناسبة من قبل الراوي، لا تبرر هذا الحكم القاسي على أصل الرواية..

هذا بالإضافة: إلى أنّ حالة الكشف والاطلاع على الأمور الخفيّة، ليست من الأمور المستهجنة، وقد ذكرت الكتب التي تتحدث عن أهل الذكر، والزهد، والتقوى، والعبادة، الشيء الكثير ممّا يدخل في هذا المجال، بحيث يقطع الإنسان بصدور بعضه فعلاً..

كما أنّه قد سبق منه نفسه قبول النص الذي يقول: إنّ أم الشريفين هي التي سلمتهما للشيخ المفيد، ليتولى تعليمهما، رغم أنّه هو نفسه لم يقبل بعض الفقرات التي وردت في تلك الرواية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) زهر الآداب، ج 2 ص 496 ومقدمة ديوان الشريف الرضي للدكتور الحلو ص 32، وعن قطب السرور، ص 316.

(2) ديوان الشريف الرضيّ، مقدمة الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، ص 32.

(3) الغدير، ج 4 ص 204 عن الرفاعي في صحاح الأخبار، ص 61.

(4) الكنى والألقاب، ج 2 ص 272 وسفينة البحار، ج 1 ص 526.

(5) النجوم الزاهرة، ج 4 ص 240.

(6) غاية الاختصار، ص 77.

(7) ديوان الشريف الرضيّ، مقدمة الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، ص 31.

(8) جامع الرواة، ج 2 ص 99 ورجال أبي علي، ص 271 ورجال المامقاني ج 1 ص 109.

(9) عمدة الطالب، ص 207 وأمل الآمل، ج 2 ص 262 ورياض العلماء، ج 5 ص 81 والدرجات الرفيعة، ص 467 وتأسيس الشيعة لفنون الإسلام، ص 339 ومستدرك الوسائل، ج 3 ص 510، الخاتمة، وروضات الجنات، ص 547 والغدير، ج 4 ص 22.

(10) المنتظم، ج 7 ص 279 وعنه في الغدير، ج 4 ص 203 وفي رجال السيد بحر العلوم، ج 3 ص 132.

(11) شرح النهج ج 1 ص 33 وعنه في قاموس الرجال، ج 8 ص 146 / 147 والغدير، ج 4 ص 203 ومقدمة حقائق التأويل لعبد الحسين الحلي، ص 49.

(12) روضات الجنات، ص 550.

(13) روضات الجنات، ص 550 ولآلئ الأخبار، ج 4 ص 38 / 39.

(14) ديوان الشريف الرضيّ، مقدمة الدكتور الحلو، ص 31.

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد