السّيّد عبد الحسين دستغيب ..
الخشوع «تذلّلٌ وتصاغرٌ ممزوجٌ بالمحبّة، قبالةَ مُنعِمٍ عظيم»، وهو يتأتّى من أمرين اثنين:
الأمر الأوّل: إدراكنا لعظمة هذا المنعِم وقدرته واستطاعته، وينتج عنه شعورٌ بالمهابة تجاهه.
الأمر الثاني: تلمُّسنا لكرمه وإحسانه المتوالي، ويثمر ذلك محبّةً له في قلوبنا.
ومثال ذلك: خشوعُ وليِّ السلطانِ المقتدرِ قبالة مولاه؛ فهو يُدرك أولاً منزلة السلطان ومبلغ قدرته، فتتولّد من ذلك في قلبه مهابة له. وهو يعلم، ثانياً، أنّ كل ما يتقلّب فيه من مال وجاه وعزّ، إنما هو من مولاه السلطان... فيواجهه، نتيجة هذين الأمرين، بقلبٍ خاشع وبدَنٍ خاضع.
الهيبة والمحبة نتاج المعرفة
وبناءً على ما تقدّم، نقول:
إنّ صاحب المعرفة؛ أي مَن عرف في نفسه الحقارة والعدَم، وعرف في ربّه العظمة والوجود المطلقَين، بل انحصار القدرة والعظَمة في عالَم الخلْق به، تظهر في قلبه الهيبة لله عزّ وجلّ.
ومن ملاحظة نِعَم الخالق التي لا تُحصى، عليه وعلى الآخرين، وملاحظة أنّه لا منعِم غيره سبحانه، تظهر في قلبه محبةُ الله سبحانه، عندها ينصرف إلى إظهار عبوديته وأداء شكر إنعامه، ويخاطب المنعِم العظيمَ الشأن، ويناجيه ليحقّق لنفسه الفلاح: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾. [المؤمنون:1-2]
وفي المقابل، مَن يتوهّم أنّ له أو لغيره عظمةً وقدرة، أو ينسب نِعم الله التي لا تحصى إلى نفسه، أو إلى مخلوقٍ آخر، فهو محرومٌ من الوصول إلى مقام الخشوع لله عزّ وجلّ. وبعبارة: ما دام معجباً بنفسه، ويتخيّل أنّ النِّعم منه أو من مخلوقٍ آخر على نحو الاستقلال، فليس له من حقيقة الإيمان وآثاره نصيب.
ومَن كان هذا دَيدنه ومعتقده دخل في زمرة «أصحاب القلوب القاسية» بالمفهوم القرآنيّ. قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ...﴾. [البقرة:74]
وقوله تعالى: ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ سببه أنّ جميع الأسباب الطبيعية تنتهي إلى الذات الإلهية، وليس خافياً أنّ ملكوت جميع الأشياء يتّصف بالشعور والإدراك.
قال بعضهم في تفسير هذه الآية: «هذه القلوب أشدّ قسوة من الصخر الصّلد، لا هي تقبل الحقّ ولا هي ذات حياة معنوية وكمال عقليّ، لا تفور من داخلها عواطف الخير ولا تجد النصيحة والحِكمة والعِبرة، من آذانها وعيونها، سبيلاً إلى ضميرها ووجدانها الجافّ والميّت، ولا تحني رأسها أمام العظمة والقدرة والآيات المحسوسة، مع أنّ صخور الجبال الشامخة تتساقط أمام قدرة الله وقهْر آياته».
وسبب قسوة قلوب هؤلاء إلى هذا الحدّ، ناجمٌ من آثار أعمالهم التي أفقدت قلوبهم القابلية التي كانت موجودة فيها. وأمّا كون قلوبهم القاسية أشد قسوة من الصّخر، فمردّه إلى ثلاثة أمور:
1) كثيراً ما ينبع الماء من باطن الصخور، إلّا أنّ هذه القلوب القاسية لا ينبع منها شيء.
2) يتشقّق الصخر بسبب عوامل الخِلقة، ويخرج منه الماء، إلّا أنّ قلوب هؤلاء لا تصلها المواعظ والعِبَر، ولا يرشح منها الخير.
3) تنحني الصخور أمام قهر الله تعالى، إلّا أنّ قلوب هؤلاء لا تخضع أمام عظَمة الحقّ وآياته.
الاستكبار عن التضرّع
قسوة القلب معناها تحجّره في مقابل لِينه، بحيث لا يتأثر لرؤية المشهد أو سماع الحديث المؤثّرين عادةً. وقد تقدّم أن القسوة ثمرة الذنوب والمعاصي، كما في قوله تعالى حكايةً عن بني إسرائيل: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً..﴾. [المائدة:13]، والمعنى: أن بني إسرائيل نقضوا العهد الذي كانوا قد عاهدوا الله عليه؛ من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرُّسُل، فعاقبَهم سبحانه بالطّرد من رحمته وجعل قلوبهم قاسية؛ أي حجب عنهم الألطاف التي تلين القلوبُ بها، فرسخت قلوبهم في القسوة، ولم يعودوا يتأثّرون بمشاهدة الآيات واستماع التخويفات.
كذلك، يبيّن الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وآله في الآيتين 42 و43 من سورة الأنعام المباركة سببَ مكابرة المستكبرين عن التضرّع وطلب العفو: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ...﴾.
والمعنى: أنه عزّ وجلّ أرسل إلى أممٍ سابقة أنبياء ورُسُلاً، ثمّ ابتلى تلك الأمم بأنواع الشدائد والمِحَن لكي تلين قلوبها وتصير جديرةً بقبول دعوة الأنبياء في توحيد الله والتضرّع إليه، إلّا أنّهم لم يرجعوا إلى ربّهم، حتّى عند مواجهة المصائب والمنغّصات والبليّات، ولم يتذلّلوا له، ولم تتأثّر قلوبهم، بل ظلّوا منهمكين في أعمالهم الشيطانية التي تحجبهم عن الله، واعتمدوا الأسبابَ الظاهرية متوهّمين أنّ صلاح أمورهم جميعاً مرتبط بها.
ثمّ يبيّن الله تبارك وتعالى في الآية التالية من السورة نفسها، طبيعة العقاب الذي ينطوي على الاستدراج: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾.
والمعنى: أن قُساة القلوب هؤلاء، لمّا تمادوا في استكبارهم عن التضرّع، والإعراض عن الآيات والتخويفات، فتح الله عليهم أبواب النّعَم في كلّ المجالات، ففرِحوا بها وظنّوا أنّهم استغنوا عن الله، ثمّ ابتلاهم فجأة بالعذاب من حيث لا يحتسبون..
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام ونظريّة الأخلاق
رؤية المدرسة الإماميّة في جمع القرآن
الشيخ عبدالكريم الحبيل: أخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)