مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد جواد مغنية
عن الكاتب :
الشيخ محمد جواد مغنية، ولد عام 1322ﻫ في قرية طير دبّا، إحدى قرى جبل عامل في لبنان، درس أوّلاً في مسقط رأسه ثمّ غادر إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته الحوزوية، وحين عاد إلى وطنه، عُيّن قاضيًا شرعيًّا في بيروت، ثمّ مستشارًا للمحكمة الشرعيّة العليا، فرئيسًا لها بالوكالة. من مؤلّفاته: التفسير الكاشف، فقه الإمام الصادق(ع)، في ظلال نهج البلاغة، الفقه على المذاهب الخمسة، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، الإسلام والعقل، معالم الفلسفة الإسلامية، صفحات لوقت الفراغ، في ظلال الصحيفة السجادية، وسوى ذلك الكثير. تُوفّي في التاسع عشر من المحرّم 1400ﻫ في بيروت، ثمّ نُقل إلى النجف الأشرف، وصلّى على جثمانه المرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي، ودُفن في حجرة 17 بالصحن الحيدري.

النقد على صعيد الرغبات

عين الرضا:

 

إذا أحسن إليك إنسان، واستجاب لرغباتك فقد ملك عقلك وقلبك، لأن الإنسان عبد الإحسان، والقلوب مطبوعة على حب من أحسن إليها، فإذا نظرت إلى أقواله وأفعاله نظرت إليها بعين كليلة عن الحق، واعتقدت بأن ما يقوله هو العدل والصدق، وأن ما يفعله هو الصواب والحق، حتى ولو كان كاذبًا في أقواله، مخطئًا في أفعاله، دون أن تشعر بهذا الميل والانحياز.. بل إنك تحسب مخلصًا أن ما تمليه عليك العاطفة هو من إملاء العقل، ومنطق الواقع.

 

عين السخط:

 

والشيء نفسه يقال في شهادتك على من أساء إليك، لأن عين السخط تمامًا كعين الرضا كلتاهما تعميان عن الحق، وصاحبهما ينطق عن الهوى، ويحسب أنه وحي يوحيه الحق والواقع، وليس عامل التربية والبيئة بأفضل من عامل الحب والكراهية في تصوير الواقع تبعًا لها.

 

الآراء والمعتقدات:

 

وإذا كانت آراء الناس ومعتقداتهم - غير البديهية - عرضة لأخطاء البيئة والأنانية فعلى العاقل المنصف أن يتهم نفسه فيما يرى ويعتقد، وأن يتنبّه دائمًا إلى أن ما يؤمن به يقبل النقد والنظر، وأنه لو كان منزّهًا عن الخطأ لكان نبيًّا مرسلًا، وكانت جميع أقواله وآرائه مقياسًا للحق، ومعيارًا للعدل.

 

أما الذي يحق له أن ينظر وينقد فهو المنصف العارف الذي يملك الاستعداد والمؤهلات.. فإن الجاهل بالطب لا يدعى إلى فحص المريض، ومن لا يعرف الهندسة لا يطلب اليه أن يضع فيها الترتيبات والتصاميم، ومن لا يركن إلى ضميره لا يعتمد عليه في شيء، ومن كفر باللّه لا يسأل عن رأيه فيمن آمن وأيقن.

 

أجل، لو أن من كفر وجحد كان قد قرأ الفلسفة الإلهية، واطّلع على براهين الإلهيين وأدلتهم لكان للسؤال عن رأيه وجه، إن كان من أهل الرأي والإنصاف ولكن كيف يقرأ وهو يرى مسبقًا أن كل ما يتصل بالدين أسطورة ووهم؟! وهل تقرأ أنت كتابًا في الحساب لمؤلف يرى أن اثنين واثنين تساوي عشرة؟! وهذا هو بالذات شأن كثير ممن جحد وألحد.

 

وتقول: هذا هو حال المؤمنين أيضًا بالقياس إلى كتب الإلحاد حيث لا يقرأون كتب الملحدين وبراهينهم.

 

الجواب:

ما من باحث في الإلهيات قديمًا وحديثًا إلا واستعرض أقوال الملحدين وأدلتهم وتناولها بالنقد والتحليل في ضوء العقل، واهتم بها كل الاهتمام، أما الملحدون فترجع جميع أقوالهم وأدلتهم إلى شيء واحد، وهو أن الإيمان باللّه إيمان بالغيب، وأنهم لا يؤمنون إلا بالحس.

 

وأجابهم من آمن بالحق والعدل: إن الإيمان بالحس هو في الوقت نفسه ايمان بالعقل، لأن شهادة الحس ليست بشيء لولا العقل، وإذا جاز الاعتماد على العقل في الحس المباشر جاز الاعتماد عليه في الحس غير المباشر، والتفكيك تحكّم، وترجيح بلا مرجح.

 

ومهما يكن، فإن الغرض من هذا الفصل أن نبين ونؤكد أن الإنسان لا يسوغ له أن ينتقد إذا كان أسيرًا لمذهب أو نظرية أو تربية أو أي شيء.. ومن هنا حين أراد ديكارت أن يركّز معلوماته على المنطق السليم شك بادىء ذي بدء في كل شيء إلا في الشك، ثم أخذ بالنظر والاستدلال.

 

وتقول أيضًا: إن معنى هذا أن نسد باب النقد من الأساس، إذ ما من عالم أو فيلسوف إلا وله نظرية خاصة، لا ينفصل عنها، وينظر إلى الشيء من خلالها، ويحكم عليه بوحي منها، وعلى هذا فمن يلتزم دينًا معينًا ، أو مذهبًا خاصًّا لا يسوغ له أن ينتقد من لا يدين بدينه ويتمذهب بمذهبه.

 

الجواب:

أولًا: إن عدم انفصال المرء عن رغباته لا يعني أنه بعيد عن الحق والواقع في كل ما يقول ويفعل، فإن بعض الرغبات تأتي انعكاسًا عن الواقع، وتعبيرًا عن الخير، ولو صح القول بأن الرغبات والتعصبات بكاملها لا تمت إلى الواقع بصلة لما وجد في الإنسانية مصلح، ولا مفكر، ولا داع إلى الحق والخير.. ولوجب أن يسد باب القضاء والترافع، لأن كل من يدعي شيئًا يرغب فيه، ويتعصب له، فكما أن القاضي العادل العارف لا يرفض الدعوى اعتباطًا، ولا يحكم بها تشهيًا، وإنما يستمع للمدعي، ويطلب منه البينة والدليل، ويحكم بما تستدعيه الأصول المقررة.. كذلك علينا نحن أن لا نصدق، أو نكذب ما نسمع ونقرأ إلا بعد النظر والبحث. وهذا هو النقد بمعناه الصحيح.

 

ثانيًا: ليس العبرة في صحة النقد أن يكون عقل الناقد صحيفة بيضاء، لم يخط فيها حرف واحد، وإنما العبرةأان يعتمد في نقده على ما هو مقبول في نظر العقل، أو مسلم به عند الخصم، فلك أن تنتقد من يقول بأن الأرض مسطحة، وأنت مؤمن بكرويتها، على شريطة أن تأتي بالدليل المقنع على بطلان التسطيح وأن تقول للمسيحي: إنك تخالف كتابك المقدس لأنك لا تمد خدك الأيمن لمن ضربك على خدك الأيسر، تقول له هذا، وإن لم تكن مسيحيًّا.. وأن تقول للمسلمين: إنكم تخالفون أمر القرآن الكريم: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)، وإن لم تكن مسلمًا، ويكون قولك هذا حجة دامغة..

 

وبكلمة، ليس من شرط الناقد أن لا يؤمن ولا يعتقد بشيء، وإنما الشرط أن لا يتخذ من إيمانه واعتقاده معيارًا لبطلان العقائد الأخرى، وأن لا تحول عقيدته ونظريته دون العدل ومنطق العقل، وأن يعتمد على الدليل الذي تسالم عليه العقلاء، أو آمن به الخصم على الأقل، وبهذا المنطق يقف الناقد موقف المحايد، وبدونه يعجز عن القيام بمهمة النقد الصحيح، وإن بلغ من العلم ما بلغ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد