مقالات

مشروع دراسة الحركة الحسينية (2)

السيد منير الخباز

وهنا تنشأ أسئلة أُخرى، بأن يقال: على فرض أنّ ما قام الإمام الحسين (عليه السلام) بتطبيقه هو التكليف بإرجاع مقام الخلافة إلى أهله، أو التكليف بإقامة العدالة على الأرض، فهل كان المخطط الحسيني هو أن يتمّ هذا الهدف ـ وهو إقامة العدالة أو دولة العدالة أو الدولة المعصومة ـ على يده، أم أراد أن يكون هو المفتاح لهذا المشروع ولهذا الخط؟ فكما أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت مهمتهما التأسيس للدولة الإسلامية؛ إذ أتمّ الإمام علي (عليه السلام) في عصره التشريعات المتعلّقة بالدولة الإسلامية من حيث السلطة القضائية والتنفيذية ووضع القوانين الاجتماعية والاقتصادية للدولة الإسلامية ـ كما يظهر من عهده لمالك الأشتر رضي الله تعالى عنه ـ وأصبح الدور الآخر على عاتق الإمام الحسين (عليه السلام) ومن بعده الأئمّة عليهم السلام، وهذا الدور هو الشروع في حركة تطبيق تلك التشريعات والقوانين على أرض الدولة الإسلامية، فالحسين (عليه السلام) أراد أن يكون هو المفتاح للشروع بهذا الدور، لا أن يتمّ هذا الأمر على يده في عصره وفي زمانه، بل هو المفتاح لجميع ما حصل من ثورات وحركات منذ يومه (عليه السلام) إلى ظهور الإمام المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف، فجميع ذلك مراحل لنفس حركة الإمام الحسين (عليه السلام)، وإنّ دولة المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف ما هي إلّا امتداد لهذا المشروع الحسيني العظيم ومرحلة من مراحله.

وبالتالي؛ فلا مانع من أن يكون دور الحسين (عليه السلام) هو وضع الإطار العام لهذه الحركة العظيمة، وأن تكون شهادته (عليه السلام) بذرة لبداية وانطلاقة هذا المشروع إلى ظهور المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف، وليس ذلك تحجيماً لدور الحسين (عليه السلام) ومقامه؛ فإنّ حركة كل إمام معصوم هي بحجم الظروف الموضوعية التي عاش فيها، فعندما يقال: إنّ الدور الحسني كان دور الصلح وحقن الدماء والتمهيد لثورة الحسين (عليه السلام)، فإنّ هذا ليس تحجيماً لدور الحسن (عليه السلام)؛ وإنّما دوره ومسؤوليته في زمانه بحجم الظروف الموضوعية التي عاش فيها، وكذلك دور الصادِقَين عليهما السلام، ودور الكاظم (عليه السلام)، ودور الرضا (عليه السلام)، ودور الإمامين العسكريين عليهما السلام الذي اقتصر على إجابة المسائل والاستفتاءات وصرف الحقوق من خلال وكلائهم؛ فإنّ الظروف هي التي جعلت الدور بهذا الإطار، وليس ذلك تحجيماً لدورهم عليهم السلام.

 فكل تلك الأسئلة بحاجة إلى دراسة فقهية من أجل معرفة أنّ ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) هل هو تطبيق لتكليف خاص أو لتكليف عام، وما هي حقيقة ذلك التكليف؟

الجهة الثالثة: الرؤية التحليلية للحركة الحسينية

يُبحث في هذه الجهة عن قسمين:

القسم الأول: البحث عن ماهية وحقيقة الحركة الحسينية

وهذا البحث من قبيل ما يقال: ما هي ماهية وحقيقة حركة الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ فيُجاب: إنّ ماهيتها وحقيقتها الدعوة والبيان. ومن قبيل ما يقال: ما هي حقيقة حركة الإمام المهدي المنتظر عج الله تعالى فرجه الشريف؟ فيُجاب: إنّ حقيقتها إقامة دولة العدل والقسط. وهنا نسأل أيضاً: ما هي حقيقة حركة الإمام الحسين (عليه السلام)؟

وللجواب عن هذا السؤال لا بدّ من الرجوع إلى كلمات وشعارات صاحب الحركة الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لكي تتّضح وتتحدّد الإجابة المناسبة والصحيحة.

 عندما نقرأ تصريحات الإمام الحسين (عليه السلام) ـ من أول انطلاقة الحركة والثورة وحتى يوم شهادته ـ نجد أنّها تُشير إلى عدة حقائق:

 أولاً: رفض البيعة: فإنّ هناك تصريحاً للإمام (عليه السلام) يظهر منه أنّ واقع الثورة هو رفض البيعة؛ لأنّ في البيعة إذلالاً حينما قال (عليه السلام): «ومثلي لا يبايع مثله».

ثانياً: امتثال الأمر الإلهي: هناك تصريحٌ آخر يظهر منه أنّ المطلوب امتثال الأمر الإلهي، وذلك في قوله (عليه السلام): «أتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله)... فقال: يا حسين، اخرج؛ فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً، فقال له ابن الحنفية:... فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ فقال له: قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا»[14].

ثالثاً: الإصلاح: وهنا يظهر منه (عليه السلام) أنّه في إطار إنشاء مشروع إصلاحي، وهو ما ذكره (عليه السلام) لأخيه محمد بن الحنفية في وصيته له: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي (صلى الله عليه وآله)...»، بناءً على أنّ المراد بالخروج هو خروجه (عليه السلام) على الدولة الظالمة آنذاك، وليس الخروج من مكة إلى العراق.

رابعاً: مواجهة الظلم: وفي موقع رابع صرّح (عليه السلام) وهو في طريقه إلى العراق بأنّ الظلم لا بدّ من مواجهته: «ألَا ترون الحق لا يُعمَل به، والباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برماً»[15].

خامساً: الزحف المقدّس: المعنى الآخر الذي صرح (عليه السلام) به هو الزحف على كل حال؛ لأنّه لا خيار غير هذا العمل: «ألَا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة على قلّة العدد، وكثرة العدو، وخذلة الناصر»[16].

الآراء في تعدّد وتنوّع كلمات الإمام الحسين (عليه السلام)

 إذن، فهناك مجموعة من التصريحات والكلمات ـ المختلفة ظاهراً ـ قد صدرت من الإمام الحسين (عليه السلام)؛ من هنا لا بدّ من طرح هذا السؤال: هل هذه الموارد هي عبارة عن عوامل متعددة أم لا؟ فهنا عدّة آراء:

الرأي الأول: إنّ هذه الموارد والتصريحات هي عبارة عن عوامل متعدّدة وعلل ومبرّرات متنوعة في حركة واحدة.

الرأي الثاني: إنّه لا بدّ من إرجاع هذه المبرّرات كلها إلى هدف واحد، كما حاول الشهيد المطهري في كتابه الملحمة الحسينية من إرجاعها إلى حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الرأي الثالث: هناك نظرة أُخرى لهذه التصريحات، وهي أن يقال: بأنّها تعبير عن مراحل مرّت بها الحركة الحسينية؛ أي: إنّ كل تصريح يتحدّث عن دور ومرحلة من المراحل تكون كل مرحلة تمهيداً لبروز مرحلة أُخرى.

وعليه؛ فهنا مراحل:

المرحلة الأُولى: مرحلة المدينة، وكانت مرحلة رفض البيعة ـ سواء أكان الإمام الحسين (عليه السلام) مختاراً في هذا الرفض أم مضطراً إليه، فهذا شيء آخر ـ ومن الطبيعي أن تكون لهذه المرحلة كلماتها الخاصة بها.

 المرحلة الثانية: وهي مرحلة الخروج من مكة، وكانت مرحلة إظهار أنّه في مقام امتثال أمر إلهي، وكان لا بدّ لهذا الخروج من تفسير أمام صحابة النبيّ (صلى الله عليه وآله) والتابعين ومَن كان في حالة استغراب من خروج الحسين (عليه السلام) يوم التروية والناس قادمة إلى الحج في مكة.

المرحلة الثالثة: مرحلة تحديد الزمان والمكان، فأمّا المكان، فقد اختار (عليه السلام) العراق لانطلاق الثورة، وهو ما ذكره (عليه السلام): «ألم تكتبوا لي أن أقبل إلينا لقد أينعت الثمار واخضر الجناب، وإنّما تقبل على جند لك مجنّدة»[17]، فهذا النص يعبِّر عن هذه المرحلة في الحركة الحسينية، وليس هو تعبيراً عن أصل الحركة نفسها، بل هو تعبير عن تحديد الموقع والمكان.

 كما يظهر منه (عليه السلام) أنّه أخَّر المعركة إلى يوم عاشوراء باختياره وإرادته؛ لأنّها كادت أن تتم في يوم التاسع من المحرم، إلّا أنّه (عليه السلام) اختار الزمان المناسب كما اختار المكان المناسب. فكل هذه التصريحات التي ترتبط بإرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة، والسؤال عن حركة مسلم بن عقيل ومصيرها، ومعاتبة الحرّ بن يزيد الرياحي ومَن معه بأنّهم كتبوا إليه، وقد أخرج لهم خرجين من الكتب والرسائل، كل ذلك لا يرتبط بأصل الحركة وماهيّتها، بل هو مرتبط بتحديد المكان والزمان.

المرحلة الرابعة: وهي مرحلة يوم عاشوراء يوم الاستشهاد، والتصريحات التي برزت منه (عليه السلام) يوم عاشوراء هي التي تُعبِّر عن المرحلة الأخيرة من مراحل هذه الحركة المباركة.

إذاً؛ فكل تصريح وكل مقطع من كلام الإمام الحسين (عليه السلام) يُعبِّر عن مرحلة معيّنة تكون ممهِّدة للمرحلة التي بعدها، لا أنّ كل هذه التصريحات تُعبِّر عن ماهية الحركة نفسها، ولا أنّها علل وأسباب متعددة لحركة واحدة.

فهذه جهة من الجهات المهمة التي لا بدّ من بحثها في تفسير ماهية الحركة الحسينية.

القسم الثاني: البحث في عوامل الحركة الحسينية

البحث في أنّ هذه الحركة هل كانت حركة مادية طبيعية، أي: هل كانت في إطار العوامل الطبيعية المتاحة آنذاك، أو لا؟ فهنا احتمالان:

الأول: إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) أراد أن يحقّق هدفه من إقامة العدالة من خلال العوامل التي أُتيحت له، وهي ـ على سبيل المثال ـ التحرّك بمئة شخص أو يزيدون أو ينقصون، وبأن يكون له (عليه السلام) صوت ـ مثلاً ـ في الحجاز، وصوت في الكوفة، وصوت في البصرة، وصوت في اليمن، وهذا يُعتبر الدور الأول للحركة، ثم ينتهي هذا الدور في مقطع تاريخي معيَّن، ليأتي دور آخر من قِبَل الإمام السجاد (عليه السلام) أو العقيلة زينب عليها السلام؛ ليكون إعلاماً لهذه الحركة، بحيث لولاه لانقضت هذه الحركة واندثرت، ثُمّ يأتي الدور الثالث، وهو دور الأئمّة المعصومين عليهم السلام في الإصرار على إقامة المجالس وإحياء الأمر لهذه الحركة المباركة، كما ورد عنهم عليهم السلام: «مَن جلس مجلساً يُحيَى به أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»[18].

الثاني: إنّ الحركة الحسينية لم تكن مؤطَّرة بالأُطر المادية الطبيعية؛ وذلك من خلال قراءة ما صدر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) والزهراء عليها السلام من أنباء عن مصير هذه الحركة، وأنّه ينصب له علم في الطف، وينصب له علم لا يزيده مرور الأيام وكرور الدهور إلّا علواً، خصوصاً بملاحظة أنّ الظروف الطبيعية لم تكن متأتّية لحجم هذا الهدف الذي صرَّح به الحسين (عليه السلام) من خلال بياناته ورسائله، فلو كان الأمر خاضعاً للعوامل الطبيعية فقط لما كان وجه لتلك التصريحات المتكررة من قبل الإمام (عليه السلام)، كيف وهي صدرت من سياسي حكيم يختار دوراً بحجم الظروف وبحجم الإمكانات التي بين يديه؟! وأيضاً عندما نضمّ إلى هذه التنبيهات والمؤشرات ما حدث من إعداد بني أسد في الأيام الأُولى لمقتله (عليه السلام) من القيام بدور معيَّن، وما حدث للسبايا في طريقهم إلى الكوفة وإلى الشام من معاجز وكرامات إلى آخر هذه الأُمور، فجميعها يُظهِر أنّ هذه الحركة ـ سواء أكانت حركة إقامة العدالة أم كانت حركة إعزازٍ للدين ـ لم تكن متأطرة بالعوامل الطبيعية، ولم تكن متقوقعة في هذه الأسباب المادية المحدودة، بل كان للعوامل الغيبية دورٌ في هذه الحركة، ومن هذه العوامل دم الحسين (عليه السلام) وصبره وعطشه؛ فإنّ هذه الأُمور ربما يُنظَر إليها بمنظار مادي، ويُتعامل معها بالحسابات الطبيعية، فتبدو أُموراً طبيعية في ساحة المعركة، فإنّ مَن يُحاصَر في أرض ويُمنَع عنه الماء فإنّه يموت عطشاً، ومَن يقاتل فإنّه يُراق دمه، ومَن تكون الفئة المحاربة له فئة حاقدة فإنّه من الطبيعي أن تقوم بمجزرة تشمل حتّى ذبح الأطفال والتمثيل بالأجساد وسبي النساء، ولكنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ هذه الأُمور لا يُنظَر إليها بهذا المنظار الضيّق، وإنّما كل هذه الأُمور هي جزء من الحركة نفسها، فالحركة لم تعتمد على فعل مادي جسدي تمثل في جسم الحسين (عليه السلام) وهو خارج من المدينة إلى مكة، ثُمّ من مكة إلى كربلاء، ثُمّ قيامه بحركة قتالية معيَّنة، إنّما انضمّت إليها عوامل هي كانت دخيلة ـ بالمنظور الملكوتي ـ في تحقيق أهداف الحسين (عليه السلام)، من دمه وصبره ومحنته وذبح أطفاله وسبي نسائه، بحيث يكون مجموع هذه العوامل الغيبية أقطاباً وأوتاداً اعتمدت عليها الحركة الحسينية، ويكون ذلك تفسيراً لمشيئة الله تعالى بأن يرى الحسين (عليه السلام) قتيلاً، وأن يرى النساء سبايا.

وبالتالي؛ إذا قُرئت الحركة من هذا المنظار تبيَّن أنّ ما ورد في كثير من فقرات الزيارات الشريفة عن الصادق (عليه السلام) والأئمّة عليهم السلام من بعده في الحسين (عليه السلام) من التركيز على نقاط معيَّنة في هذه الحركة: من أنّه صريع الدمعة الساكبة، وصاحب المصيبة الراتبة، وبطل الإسلام، والمضحّي بنفسه في سبيل الله، أو عندما يُخاطب العباس (عليه السلام) بالصابر المجاهد المحامي الناصر... «أَشهدُ وأُشهِدُ اللهَ أنّك مضيتَ على ما مضى عليه البدريون والمجاهدون في سبيل الله»[19].

فإنّه بذلك يتبيَّن لنا الجواب عن السؤال الذي طرحناه في الجهة الأُولى هل نحن معنيّون بدراسة الحركة الحسينية أم لا؟ والجواب: إنّنا معنيّون بدراسة حركة الحسين (عليه السلام)؛ لأنّنا معنيون بفهم هذه الزيارات الشريفة التي وردت في حركة الحسين (عليه السلام)، فهي كانت شرحاً لماهية هذه الحركة وتفسيراً لحقيقة هذه الحركة. ومن جهة أُخرى، نفهم من مجموعة هذه الزيارات أنّ الحركة لم تعتمد على العوامل الطبيعية وحدها، وإنّما اعتمدت على مجموعة من العوامل الغيبية التي كانت أوتاداً وأعمدة لتحقيق أهداف هذه الحركة وثمراتها.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد