مقالات

مشروع دراسة الحركة الحسينية (3)

السيد منير الخباز

إشكال على غيبية الحركة الحسينية

قد يقال: بأنّ تفسير الحركة الحسينية بتفسير غيبي وإخضاعها للعوامل الغيبية يخرجها عن الإطار الإنساني، وبالتالي؛ فلا قابلية ولا صلاحية لها أن تقدم بوصفها مثلاً إنسانياً أعلى للحركة الهادفة التي تصل إلى غاياتها ضمن الطرق والسبل الإنسانية والطاقة البشرية.

جواب الإشكال:

 يمكن الجواب عن الإشكال المتقدم بأنّ العامل الغيبي على نحوين:

النحو الأوّل: أن يكون العامل نفسه أمراً غيبياً، وهذا نظير تدخّل الملائكة في معركة بدر، كما جاء في قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ رَمَىٰ﴾[20]، فهذا العامل في حد نفسه أمرٌ غيبيٌ، ولا ننكر دخله في سلوك المؤمن، فضلاً عن حركة الأنبياء والأوصياء والمصلحين بمقتضى قوله}: ﴿ أُولَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾[21]. ولكنّنا لا نربط الحركة الحسينية بمثل هذا العامل، وإن كان دخيلاً فيها.

 النحو الثاني: أن يكون العامل ذا تأثير ملكوتي إلّا أنّه في حد نفسه عاملٌ بشريٌ إنساني، نظير ما تطرحه مدرسة علم النفس الاستبطاني من أنّ إرادة الإنسان لها دخل في صناعة إنجازاته، والتلقين النفسي من الإنسان لنفسه في كل مرحلة من مراحل خوضه للحياة عامل دخيل في نجاحه ووصوله إلى المعجزات في إنجازاته وأفعاله.

فالمطروح في هذا التفسير هو أنّ هناك مجموعة من العوامل البشرية والإنسانية لها تأثير ملكوتي في إنجاح الإنجاز البشري، فالحسين عليه السلام من أجل الوصول إلى غايته وهدفه من حركته ـ وهو أن تكون تلك الحركة هي المفتاح أو البذرة أو المنطلق لجميع الحركات والثورات التي تصبّ في تحقيق العدالة والقسط على الأرض ـ قد استخدم الأدوات البشرية التي لها تأثير ملكوتي في صناعة الإنجاز، نظير الدم الذي يُعبِّر عنه ـ وهو يجري من طفله أو من قلبه: «هوَّن عليَّ ما نزل بي أنّه بعين الله»[22]، ونظير العطش الذي عبَّر عنه بخطابه لولده على الأكبر: «فما أسرع ما تلقى جدَّك محمداً صلى الله عليه وآله فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً»[23]، ونظير قوة الإرادة التي عبَّر عنها بقوله: «لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقرّ إقرار العبيد»[24]، ونظير عدم الانحناء الذي عبَّر عنه بقوله:

                                «أنا الحسين بن علي              أحمــي عيـالات أبـي

                                آليـت أن لا أنـثـني             أمضي على ديــن النبي»[25].

ونظير لفظ الذلّ الذي عبَّر عنه بقوله: «هيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون». فعندما يرد علينا التساؤل: كيف استطاع الحسين عليه السلام بهذا الحجم الصغير من العُدّة والعتاد والأنصار، وفي هذا المدى الزمني القصير الذي خاض فيه المعركة، وفي هذه الوسائل الإعلامية الضئيلة التي توفّرت آنذاك، أن يتجاوز الحدود المادية المعبَّر عنها بالزمكان، وأن يفرض حركته على الزمن، وعلى جميع الأُطُر والإمكانات البشرية؟

فالجواب عن هذا السؤال هو: أنّ الإمام عليه السلام إنّما تخطّى كل هذه القيود، وتجاوز كل هذه الحدود بالأدوات التي هي في ظاهرها أدوات بشرية إنسانية، ولكنّها في واقعها ذات تأثير ملكوتي غيبي في صناعة الحدث وتجاوزه مدى الزمان والمكان، وهذه إحدى المعاني المشار إليها من المشيئة الإلهية برؤيته عليه السلام قتيلاً ورؤية النساء سبايا.

 هذا كلّه فيما يتعلّق بهذه الجهة الثالثة، وهي جهة حقيقة وماهية الحركة الحسينية.

 الجهة الرابعة: الرؤية العقائدية للحركة الحسينية

دراسة الحركة الحسينية من وجهة نظر عقائدية في غاية الأهمية؛ إذ لا يمكن فصل دراسة حركة حَمَلَة رسالة السماء ـ من الأنبياء والأوصياء ـ عن الجانب الاعتقادي، وهذا نظير ما تقدم في الجهة السابقة من عدم إمكان فصل حركة المصلحين عن العوامل الغيبية؛ لأنّ منطلقهم من الغيب إلى الغيب، كذلك لا يمكن فصل حركتهم عن الإطار الاعتقادي؛ لأنّهم هم حملته وروّاده.

وبالتالي؛ فلا بدّ من تمهيد البحث في الجهة العقائدية؛ لربطها بثورة الإمام الحسين عليه السلام. فنقول: قد تقرّر من الأحاديث الشريفة أنّ المعصوم عليه السلام هو مظهر لمشيئة الله تعالى، بل هو مشيئة الله تبارك وتعالى بمقتضى ما ورد: «رضا الله رضانا أهل البيت»[26]، وما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام «فإنّا صنائع ربّنا والناس بعد صنائع لنا»[27]، وقوله عليه السلام: «...ونحن إذا شئنا شاء الله، وإذا كرهنا كره الله...»[28]، وبمقتضى ما ورد في زيارة الجامعة: «والمستقرّين في أمر الله»[29]؛ حيث إنّ هناك عالَـمَين: عالم الخلق وعالم الأمر، وقد أُشير إليهما بقوله}: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾[30] وإنّ عالم الخلق انعكاس لعالم الأمر، فالاستقرار في عالم الأمر يعني أنّ القرار في عالم الخلق بيد مَن له الاستقرار في عالم الأمر، وقد أشارت الزيارة الجامعة في عدة فقرات منها إلى التزاوج الوثيق بين هذين العالَمين، وأنّ مَن له الاستقرار في عالم الأمر فله القرار في عالم الخلق: «بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث»[31]، وما يُشير بوضوح إلى هذا التزاوج الوثيق بين عالم الخلق وعالم الأمر هو قوله عليه السلام: «وأسماؤكم في الأسماء، وأجسادكم في الأجساد، وأرواحكم في الأرواح، وأنفسكم في النفوس»[32]، فلا يكاد يتفاعل قرار في عالم الخلق إلّا وله منطلق من عالم الأمر.

فمن هذا المنطلق: وهو أنّ حركة المعصوم هي تجسيد لمشيئة الله المشيئة التشريعية والتكوينية، ومشيئته تبارك وتعالى واحدةٌ، إنّما الفرق في المتعلَّق، فتارة يكون متعلّقها تشريعاً وأُخرى تكويناً. وقد أشار الإمام الحسين عليه السلام ـ كما ذكرنا سابقاً ـ إلى ائتلاف الجانبين التشريعي والتكويني في حركته في مفاد قوله: شاء الله أن يراني قتيلاً وأن يرى النساء سبايا.

 ففي هذه الجهة كيف يتم الربط والتوفيق بين كونهم مظهراً لمشيئة الله، وكون جريهم على طبق قوانين عالم المادة الذي يقتضي التغيّر والتجدّد، وبحسب التعبير القرآني يقتضي المحو والإثبات، كما في قوله: يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾[33]، فلأجل ذلك لا بدّ من عرض عدّة مفردات مهمّة لها دخل في بيان الربط:

 المفردة الأُولى: في بيان المشيئة، فقد ورد في بعض الأخبار الصحاح: «خلق الله المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة»[34]، وفيه عدّة تفسيرات:

 منها: إنّ سائر الكون المعبّر عنه بالوجود الانبساطي الإطلاقي راجع للمشيئة، حيث إنّ سائر الموجودات الإمكانية مرجعها إلى المشيئة، والمشيئة هي عبارة عن الوجود الانبساطي الإطلاقي.

ومنها: إنّ له تعالى مشيئة ذاتية كما أنّ له مشيئة فعلية بلحاظ أنّ ذاته التي هي الحياة والعلم والقدرة هي اقتضاء للفيض، وبلحاظ مبدئية ذاته للفيض يكون لجميع صفات الفعل وألوان الفعل جذر ذاتي، بحيث يكون مرجع صفات الفعل إلى صفة من صفات الذات.

 ومنها: إنّ المقصود بمثل هذا الحديث هو أنّ الله تبارك وتعالى برأ المخلوقات بمشيئته، وأنّ مشيئته لم تستند لمشيئةٍ قبلها، لا أنّ مشيئته ذاتية، ولا أنّ مشيئته هي عبارة عن الوجود الانبساطي الإطلاقي، فالمقصود: أنّ مشيئته لم تنشأ عن مشيئةٍ قبلها. وقد اختار المشهور من علمائنا أن ليست إرادته إلّا فعله استناداً إلى الروايات الشريفة التي منها: صحيحة عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله عليه السلام، «قلت: لم يزل الله مريداً؟ قال: إنّ المريد لا يكون إلّا لمراد معه، لم يزل [ الله ] عالماً قادراً ثمّ أراد»[35]، ومنها: صحيحة صفوان بن يحيى، قال: قال عليه السلام: «الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك»[36].

 المفردة الثانية: في بيان مظهرية المعصوم للمشيئة الإلهية، فإنّ المعصوم مظهر لمشيئة الله تعالى، فهو الجامع بين سائر أطوار المشيئة الإلهية في سائر العوالم في صلب ذاته القدسية، فهو الكنز الخفي في عالم الواحدية المعبَّر عنه بعالم الأسماء والصفات، وهو رقيقة العرش في قوله: ﴿ الرَّحْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ﴾[37]، وهو ركن الكرسي في قوله تعالى: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [38]، وهو العقل الأوّل في عالم الجبروت الذي أشارت إليه النصوص: «إنّ أوّل ما خلق الله العقل» [39]، وهو النفس الأوّل في عالم الملكوت الذي أشارت إليه الزيارة الجامعة: «خلقكم أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين، حتّى مَنَّ علينا بكم، فجعلكم الله في بيوت أذن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه»[40]، وهو مفتاح عالم المادة وعالم الناسوت، بل هو غايته وشرفه الذي أشار إليه حديث الكساء في الحديث القدسي: «ما خلقتُ سماءً مبنيّة ولا أرضاً مدحيةً...»[41]، إلى آخر كلمات حديث الكساء. فذاته القدسية كثيرة في عين وحدتها؛ حيث إنّ ذاته القدسية جامعة لأطوار المشيئة الإلهية لسائر هذه العوالم، وهذا ما يتفرَّع عنه البحث في المفردة الثالثة.

المفردة الثالثة: هل علم المعصوم عليه السلام إفاضة قهرية عليه أو أنّ علمه بيده ـ حيث إنّ ما ورد في الحديث الشريف: «إِذا أرادَ الإِمامُ أنْ يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك»[42]، ليس المقصود منه أنّه يكون جاهلاً فترة فيطلب العلم اختياراً فيتحوّل إلى كونه عالماً، وإنّما المقصود منه أنّ علمه بيده وتحت اختياره وليس مجبوراً عليه ـ وبتبع هذا البحث يأتي بحث آخر أيضاً، وهو أنّ علمهم عليهم السلام الاختياري هل هو خاضع للبداء المشار إليه في قوله: ﴿يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ  وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾[43]، أم لا؟

ــــــــــــــــــ

[20]    الأنفال: آية17.

[21]    المجادلة: آية22.

[22]    ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص69. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص46.

[23]    ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص67. واُنظر: الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج5، ص115.

[24]    الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص323. واُنظر: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص62.

[25]    ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص258.

[26]    ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص38. ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص29.

[27]    الشريف الرضي، نهج البلاغة: ج3، ص32.

[28]    المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج26، ص7.

[29]    الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا: ج1، ص306. مَن لا يحضره الفقيه: ج2، ص610.

[30]    الأعراف: آية 54.

[31]    الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا: ج1، ص308.

[32] المصدر السابق.

[33]    الرعد: آية 39.

[34]    الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص110.

[35]    المصدر السابق: ج1، ص109.

[36]    المصدر السابق.

[37]    طه: آية5.

[38]    البقرة: آية255.

[39]    المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي: ج1، ص202. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج1، ص97.

[40]    الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج2، ص613.

[41]    الطريحي، فخر الدين، المنتخب للطريحي: ص254. الفتّال النيسابوري،  روضة الواعظين: ص84.

[42]    الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص258.

[43]    الرعد: آية39.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد