مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

الحسين (ع) والمعارضة السّياسية (2)

أخلاقيات المعارضة

الأخلاق والقيم من الثوابت على المستوى النظري، وإن تغيرت على مستوى الفعل، والإنسان دومًا تواق نحو الكمال، لكن الاختلاف دومًا يقع في مصاديق الكمال وطرق الوصول إليه. وأي معارضة سياسية يفترض بها أن تحافظ على أصالة المجتمع وثقافته وأخلاقياته. هذا فضلًا عن أن المعارضة تكون للأفكار والمفاهيم وليست معارضة شخصانية ذاتية، فالمعارضة تعني المنافسة الشريفة من أجل الرفع من شأن المجتمعات والمحافظة على هويتها وقيمها ومبادئها وأصالتها وكرامتها، وتحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

فأخلاقية الاعتراض تلزم جماعات المعارضة السياسية بأن يلتزموا في سلوكهم تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين وتجاه جماهيرهم بمبادئ وقيم أساسية ثابتة، والالتزام بذلك هو نوع من الواجبات العامة الشخصية والجماعية لجماعة المعارضة، أي هي واجب فردي وجماعي.

فالأخلاقيات عبارة عن قواعد ثابتة عامة تصبح نسبية على مستوى الفعل والممارسة، وتعبر عن السلوك القيمي والمهني، والمطلوب من القائمين على المعارضة السياسية الالتزام بها. وتبقى هذه الأخلاقيات عديمة الفائدة ما لم تترجم إلى واقع عملي ملموس خلال ممارسة الاعتراض، حتى لو وصلت المعارضة إلى المواجهة العسكرية، وأهمها احترام كرامة الإنسان، وحماية المدنيين دون النظر لانتماءاتهم المذهبية والطائفية والسياسية.

وحتى المعارضة المسلحة، هناك مجموعة ضوابط تلزم المعارضين اتباعها كوجوب عيني تكليفي في ساحات المواجهة، وفي كربلاء قدم الحسين (ع) نموذجًا إنسانيًّا في المعارضة من حيث:

- كيف يجب أن يكون الرمز، والقائد المتصدي للإصلاح وخاصة السياسي منه.

- وكيف يجب أن يستغل حضوره الاجتماعي في قلوب الناس ليميل بهم نحو الحق، حتى لو تضررت مصالحه، بل حتى لو ضحى في سبيل ذلك بنفسه وأهله.

- أخلاقية المعارضة وخاصة السياسية منها مع الخصم، إذ إن فساد أدوات الخصم في التعاطي مع المعارضين، لا يبرر للمعارضين المصلحين أن يستخدموا الأدوات الفاسدة ذاتها، أو شبيها لفسادها في مواجهة الخصم السياسي، حتى في المعارك العسكرية، فهناك ضوابط أخلاقية وفقهية، يعدّ الالتزام بها من لوازم تحقيق الأهداف من المعارضة والإصلاح، وتخليد المعارضين وقيمهم.

 

إن تضحيات الحسين (ع) والدماء التي هيمنت على المشهد العاشورائي في كربلاء لها دلالات مهمة نوجز أهمها:

- إن الاصلاح السياسي مطلب حقيقي وواقعي لنهضة الأمة، وعلى المؤهلين التصدي له.

- إن المصلح المتصدي يجب أن تتوفر فيه مجموعة معايير، أهمها:

أ. فهمه لله وشريعته فهمًا دقيقًا في كل أبعاده، وفهمه آليات التطبيق والتشخيص للواقع.

ب. حضوره بين الناس وفي عقولهم وقلوبهم، واستعداده النفسي للتضخية بكل شيء لأجل رفع الظلم وإقامة العدل.

ج. حفظ القيم والمبادئ حتى مع الخصم، أي عدم ازدواجية المعايير، فالمعيار هو الحق وعدم الظلم.

د. التجرد من كل قبليات مذهبية وقبلية وحزبية.

هـ. موضوعيته في علاج الإشكاليات.

- مقارعة الحجة بالحجة، وعدم التعدي على الأشخاص، أي سلمية الطرح هي الأولى وفق طريقة الحجج البرهانية في تبيان شرعية المطالب. والسلمية لا تعني عدم الثورة والنهضة، بل تعني التدرج في مواجهة الاستبداد، وتشخيص كل واقع ومتطلبات التغيير اللائقة به، وتشخيص حجم الفساد وانعكاساته على العدالة وكرامة الأمة، بل تشخيص جهة الفساد وشخوصها، فالصهاينة لهم طريقة مواجهة تختلف عن بعض الأنظمة، وفساد الأنظمة يختلف شدة وضعفًا، بالتالي تختلف سبل المواجهة شدة وضعفًا، وهو ما يتطلب شخصية في طول شخصية الإمام الحسين (ع)، قادرة على تشخيص كل مقام ومرض، وبالتالي تشخيص العلاجات المناسبة له. فالسلمية في المواجهة ليست خيارًا مطلقًا، كما أن المواجهة الثورية ليست خيارًا مطلقًا.

فالحسين (ع) لم يعتد على معسكر خصومه، واستخدم كل دليل يمكن أن يستدل به على حراكه المطلبي وثورته السياسية والاجتماعية ليجلي الحقيقة، حتى أمام معسكر العدو، علّ هناك من يهتدي ويلتحق به، فبادروا هم للحرب ومن ثم هو وأتباعه ردوا بالدفاع وثبتوا على مطالبهم حتى استشهدوا جميعًا، وهذا لا ينافي مبدأ الثورة، ولكنه يقنّنها وفق منهج وطريق عليها أن تسلكه في تحقيق الأهداف.

- النبل في الخصومة وعدم الفجور مع المختلف الآخر في السياسة والعقيدة، بل إنصاف العدو من النفس من خلال تطبيق قوانين الشريعة معه، حتى لو يضعف ذلك الحراك المطلبي، فالأولى ترسيخ القانون وقيام العدل ورفع الظلم، أي درء المفسدة وليس جلب المنفعة.

 

هذا فضلًا عن أن المعارضة لا تعني ممارستها لذاتها، بل هي وسيلة للإصلاح والتقويم، ووسيلة للرقابة وإزالة كل العقبات لتحقيق العدالة، ومتى ما تحققت العدالة وتحقق الإصلاح، تصبح المعارضة هنا أمام وظيفة جديدة، وهي مراقبة ديمومة العدالة، وعدم الوقوع مجددًا في الفساد بأشكاله كافة، فهي من جهة أداة مراقبة، ومن جهة أداة مساعدة على تطبيق القانون الذي لا يتنافى ومبدأ العدالة، وعدم الضلوع في الفساد.

ومن أشد أنواع الفساد السياسي، سلب الناس حقهم في التعبير الحر ونقد السلطة ومراقبتها، وفي حقهم في قبول ورفض الحاكم، وهي المقبولية التي تعد شرطًا مهمًّا في حق الحاكم في الحكم.

فالاستبداد يهدم إنسانية الإنسان، والطغيان يحيل البشر إلى عبيد، وإذا تحول الناس إلى عبيد وحيوانات فقدوا قيمهم، فلا إخلاص، ولا أمانة، ولا صدق ولا شجاعة، بل كذب ونفال وتملق ورياء وتذلل ومهانة، ومحاولة للوصول إلى الأغراض بأحط السبل، وهكذا يتحول المجتمع في عهد الطغيان، إلى عيون وجواسيس يراقب بعضها بعضها، ويرشد بعضها عن بعض.

ومن أهم الاشكاليات التي نعاني منها عادة في الحراكات والمعارضة السياسية، تلاشي القيم والمبادئ تدريجيًّا أمام ازدواجية المعايير، والانتشار التدريجي للفلسفة النفعية، والتكسب على المستويات كافة، وأهمها المستوى السياسي.

فمواجهة الاستبداد السياسي من خلال المعارضة السياسية حتى العسكرية منها، هي مواجهة حدثت عبر التاريخ، ومع الأنبياء وبأشكال مختلفة، لخطورة الاستبداد والطغيان على المجتمعات وطريقة معرفتها لله تعالى، ولتعارض الطغيان والاستبداد تعارضًا تامًّا مع التوحيد ودعوة الله لعباده إلى التحرر، لتحرير الطاقات في صالح الناس، وفي صالح العدالة والحقوق وحفظ الكرامات.

 

يقول جون لوك (١٦٣٢م – ١٧٠٤م) معرفًا الطغيان: "إذا كان الاغتصاب هو ممارسة إنسان ما لسلطة ليست من حقه، فإن الطغيان هو ممارسة سلطة لا تستند إلى أي حق، ويستحيل أن تكون حقًّا لإنسان ما". ويستخدم الطاغية السلطة التي انفرد بها لصالحه حتى لو أدى صالحه للظلم وغياب العدالة، وينقل عن الملك جيمس في خطاب له أمام البرلمان الإنجليزي سنة ١٦٣٠ م قوله: "إن الفرق بين الملك والطاغية هو أن الأول يجعل من القوانين حدًّا تنتهي عنده سلطته، كما أنه يجعل من خير المجموع الغرض الأساسي لحكمه، أما الطاغية فلا حد لسلطانه، كما أنه يسخر كل شيء لإرادته ورغباته". بل الصفة المشتركة بين الملك والطاغي هي "عدم المساءلة" فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

لقد طرج جورج استيورات (١٨٠٦ – ١٨٧٣م) أسئلة في بحثه عن الحرية قائلا: "لا يجوز إجبار الفرد على أداء عمل ما أو الامتناع عن عمل آخر بدعوى أن هذا الأداء وهذا الامتناع يحافظ على مصلحته، أو يجلب نفعًا له، أو يعود بالخير والسعادة، بل حتى لو كان ذلك في نظر الناس جميعًا هو عين الصواب وصميم الحق"، ويرى أن الأفكار التي يتصور البعض أنها في صالح المجتمع عليهم بطرحها للنقاش – وهو ما أشار له الإمام علي (ع) مشورة بعدل – لكن صحتها أو صلاحيتها في نظرهم لا تبرر إكراه الآخرين على الأخذ بها إن هم أصروا علي رفضها – وقد تجلى ذلك في صفين عندما كان الإمام علي (ع) يريد أن يكمل مواجهته مع معاوية، وأصر الناس على التحكيم، فلم يجبرهم على القتال، وذهب إلى التحكيم رغم معرفته بمكر معاوية ودهائه، وفشل عملية التحكيم، إلا أنه حقق رغبة الناس الذين كان أغلبهم يطالبون بالتحكيم ووقف القتال – ويكمل ستيورات "فلو توصل حاكم إلى أفكار متقدمة رائعة فإن ذلك لا يبرر له فرضها على الناس القوة، بل عليه أن يعرضها عليهم وأن يقنعهم بها" لأن القهر والجر والإكراه من جانب السلطة أو تدخلها في سلوك الفرد، أمر غير جائز على الإطلاق.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد