مقالات

إيمان السيّدة زينب (ع) وصبرها

الشيخ باقر شريف القرشي

 

الإيمان الوثيق

تربّت عقيلة بني هاشم السيدة زينب عليها السلام، في بيت الدعوة إلى الله تعالى، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدت أشعتها المشرقة على جميع شعوب العالم وأمم الأرض، وكان ذلك أهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم.

لقد تغذّت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بجوهر الإيمان وواقع الإسلام، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتّى صار ذلك من مقوّماتها وذاتياتها، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب، كلّ ذلك من أجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة.

إنّ الإيمان الوثيق بالله تعالى والانقطاع الكامل إليه كانا من ذاتيات الأسرة النبويّة ومن أبرز خصائصها.

ألم يقل سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في دعائه: «ما عبدتك طمعاً في جنّتك، ولا خوفاً من نارك، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»؟

وهو القائل: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً».

 

أمّا سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (عليه السّلام)، فقد أخلص لله تعالى كأعظم ما يكون الإخلاص، وذاب في محبّته، وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أبنائه وإخوته وأبناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله، وقد طافت به المصائب والأزمات التي يذوب من هولها الجبال، وامتحن بما لم يمتحن به أحدٌ من أنبياء الله وأوليائه، كلّ ذلك في سبيل الله تعالى.

فقد رأى أهل بيته وأصحابه الممجّدين صرعى، ونظر إلى حرائر النبوّة وعقائل الوحي وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال، وقد أحاطت به أرجاس البشرية وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح؛ ليتقرّبوا بقتله إلى سيّدهم ابن مرجانة. لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة، قال: «لك العتبى يا ربّ، إن كان يرضيك هذا فهذا إلى رضاك قليل».

ولـمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه قال: «هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله»(1). أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له؟ أرأيتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله؟

وكانت حفيدة الرسول زينب (سلام الله عليها) كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله؛ فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك وهو جثة هامدة بلا رأس، فرمقت السماء بطرفها وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه: اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان(2).

إنّ الإنسانيّة تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها. لقد تضرّعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأيّ إيمان يُماثل هذا الإيمان؟ وأيّ تبتّل إلى الله تعالى يُضارع هذا التبتّل؟

لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبويّة، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي، وأنّ كلّ تضحية تُؤدّى للأمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا.

 

ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله. لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان.

لقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال؛ فالجثث الزواكي من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام، وسلبوا ما على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من حُلي وما عندهنّ من أمتعة، وهنَّ يعجنَ بالبكاء لا يعرفنَ ماذا يجري عليهنَّ من الأسر والذلّ، إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وهي تؤدّي صلاة الشكر لله تعالى على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها.

تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه.

 

الصبر

من النزعات الفذّة التي تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هي الصبر على نوائب الدنيا وفجائع الأيام، فقد تواكبت عليها الكوارث منذ فجر الصبا، فرُزئت بجدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يحدب عليها، ويفيض عليها بحنانه وعطفه، وشاهدت الأحداث الرهيبة المروعة التي دهمت أباها وأمّها بعد وفاة جدّها؛ فقد أقصي أبوها عن مركزه الذي أقامه فيه النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأجمع القوم على هضم أمّها حتّى توفيت وهي في روعة الشباب وغضارة العمر، وقد كوت هذه الخطوب قلب العقيلة إلاّ أنّها خلدت إلى الصبر.

وتوالت بعد ذلك عليها المصائب، فقد رأت شقيقها الإمام الحسن الزكي (عليه السّلام) قد غدر به أهل الكوفة حتّى اضطر إلى الصلح مع معاوية الذي هو خصم أبيها وعدوّه الألدّ، ولم تمض سنين يسيرة حتّى اغتاله بالسمّ، وشاهدته وهو يتقيأ دماً من شدّة السمّ حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة.

وكان من أقسى ما تجرّعته من المحن والمصاعب يوم الطفّ؛ فقد رأت شقيقها الإمام الحسين (عليه السّلام) قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معين، وشاهدت الكواكب المشرقة من شباب العلويِّين صرعى قد حصدتهم سيوف الأمويِّين، وشاهدت الأطفال الرضّع يُذبحون أمامها.

 

إنّ أي واحدة من رزايا سيّدة النساء زينب لو ابتُلي بها أيّ إنسان مهما تدرّع بالصبر وقوّة النفس لأوهنت قواه، واستسلم للضعف النفسي، وما تمكن على مقاومة الأحداث، ولكنّها (سلام الله عليها) قد صمدت أمام ذلك البلاء العارم، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى، وصابرة على بلائه، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)(3).

وقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(4)، وقال تعالى: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(5).

لقد صبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأظهرت التجلّد وقوّة النفس أمام أعداء الله، وقاومتهم بصلابة وشموخ، فلم يشاهد في جميع فترات التأريخ سيّدة مثلها في قوّة عزيمتها وصمودها أمام الكوارث والخطوب.

 

يقول الحجّة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في صبرها وعظيم محنتها:

للهِ صبرُ زينبَ العقيلهْ  

كم شاهدت مصائباً مهولهْ

رأت مِنَ الخطوبِ والرزايا

أمراً تهونُ دونهُ المنايا

رأت كرامَ قومِها الأماجد

مجزّرينَ في صعيدٍ واحد

تسفي على جسومِها الرياحُ

وهي لذؤبانِ الفلا تُباحُ

رأت رؤوساً بالقنا تُشالُ

وجثثاً أكفانُها الرمالُ

رأت رضيعاً بالسهامِ يفطمُ

وصبيةً بعدَ أبيهم أيتموا

رأت شماتةَ العدو فيها

وصنعهُ ما شاءَ في أخيها

وإنّ من أدهى الخطوبِ السودِ

وقوفها بين يدي يزيدِ

وقال السيد حسن البغدادي:

يا قلبَ زينبَ ما لاقيتَ من محنٍ

فيكَ الرزايا وكلّ الصبرِ قد جمعا

لو كانَ ما فيكَ من صبرٍ ومن محنٍ

في قلبِ أقوى جبالِ الأرضِ لانصدعا

يكفيكَ صبراً قلوبَ الناسِ كلّهمُ

تفطّرت للذي لاقيتهُ جزعا

لقد قابلت العقيلة ما عانته من الكوارث المذهلة والخطوب السود بصبر يذهل كلّ كائن حي.

ـــــــــــــــــــــــــ

(1). حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 276.

(2). المصدر السابق / 304.

(3).. سورة البقرة / 155 - 157.

(4). سورة الزمر / 10.

(5). سورة النحل / 96.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد