وحقيقة العبودية إلى الله هو الفقر إلى الله. وهذا الفقر فقر شامل مطلق في كل شيء، من دون استثناء: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ) [1]. (عبداً مملوكاً) لا يملك شيئاً و(لا يقدر على شيء). وهاتان الكلمتان تبلوران حقيقة العبودية بشكل كامل. ولا أعرف تحديداً للفقر أبلغ من هاتين الكلمتين (لا يملك ولا يقدر).
حقيقة تعلق العبد بالله
وتعلّق العبد بالله عندما يكون قائماً على أساس الفقر إلى الله يكون من (الإضافة الإشراقية)، وليس من (الإضافة المقولية) التي تتألف من (متعلق) و(متعلّق) و(علاقة)، فيكون (المتعلق به) هو الله تعالى في الإضافة المقولية و(المتعلق) هو العبد و(العلاقة) هي العبودية والفقر، ويكون للأنا بروز وظهور وظلال، وهذه هي مصيبة الإنسان الكبرى. وأما في الإضافة الإشراقية فلا وجود للمتعلّق، ولا يوجد إلاّ (المتعلق به) وهو الله تعالى و(العلاقة) وهي الفقر والعبودية.
الفقر إلى الله
وفقر العبد إلى الله، كما قلنا فقر شامل مطلق في كل شيء فلا يملك العبد شيئاً من دون الله، ولا يقدر على شيء من دون الله. فقر شامل في كل شيء، في وجوده، ونفسه، وعقله، وضميره، وقلبه، ووعيه، وإرادته، وفهمه، وحوله، وقوته، وحياته، واستقامته، وهدايته، وما رزقه الله من الأموال والأزواج والبنين والسلطان والموقع في الدنيا والآخرة، ليس يملك منها شيئاً، ولا يقدر على شيء منه، إلاّ ما ملّكه الله، ومكّنه الله منه (عبداً ملوكاً لا يقدر على شيء).
المراحل الثلاثة للعروج إلى الله
والفقر إلى الله معراج الإنسان إلى الله تعالى، والإنسان ينطلق للعروج إلى الله من هذه النقطة بالذات، وأية نقطة أخرى غير هذه النقطة لا تمكنه من العروج إلى الله. فالفقر إذن، قاعدة الانطلاق والعروج إلى الله. ويتم عروج الإنسان إلى الله ضمن ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: وعي الفقر إلى الله
وإذا لم يدرك الإنسان فقره إلى الله لا يدرك سلطان الله وفضله ورحمته عليه.. ولا يتمكن الإنسان أن ينطلق في العروج إلى الله من غير ان يعي وعياً كاملاً شفافاً فقره وفاقته وحاجته إلى الله.
المرحلة الثانية لهذه الحركة: التعلق والعلاقة بالله.
والتعلق بالله على أنحاء وصور مختلفة، منها: (الإيمان)، و(الرجاء)، و(الخوف)، و(الحب)، و(الأمل)، و(الأنس)، و(الشوق) وغير ذلك. وكل من هذه الألوان من أنماط العلاقة بالله. ولابد في العلاقة بالله من هذه الحزمة من الألوان وغيرها جميعاً ومن مجموعها يتألف طيف العلاقة بالله. وهذه هي العلاقة السليمة بالله، أما العلاقة الوجدانية ذات اللون الواحد فهي علاقة غير متعادلة غالباً.
والمرحلة الثالثة في هذه المرحلة: حركة العبد النفسية إلى الله بالدعاء والسؤال من الله والتوكل على الله، وطاعة الله، وشكر الله. فإن الدعاء والسؤال يتبعان الرجاء والأمل بالله، والتوكل على الله يتبع الثقة بالله وبسلطان الله وقوته، وطاعة الله تتبع الإيمان بألوهية الله لعباده، وشكر الله يتبع الإيمان بربوبية الله لعبده .. وهذه وغيرها نماذج من حركة العبد إلى الله.
إن الإنسان يمثل الفقر إلى الله والتعلق بالله والحركة إلى الله. وهذه وجوه ثلاثة لقضية واحدة نتحدث عنها بالتسلسل:
وعي الفقر إلى الله:
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إلى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [2]. والفقر هو حقيقة العبودية، ولا يدرك الإنسان العبودية إن لم يدرك الفقر. يقول تعالى في معنى العبودية: (ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) [3]. وفي هذه الآية العبودية تتجسّد في هاتين الكلمتين: (مملوكاً لا يقدر على شيء)، نفي الملك ونفي القدرة: لا يملك شيئاً ولا يقدر على شيء، وهذا هو حقيقة الفقر: نفي الملك ونفي القدرة، في مقابل الأنانية والطغيان الذي هو دعوى الملك والقدرة: (إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [4].
والأنانية والطغيان لا يعادلان الاستغناء بالملك والقدرة عن الله، وإنما يعادلان تخيّل الاستغناء عن الله. والتعبير هنا دقيق (أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) [5]. وبعكس ذلك الفقر، فإنه وعي ومعرفة وليس تخيلاً ووهماً. ولا نعرف تعريفاً للفقر والمعرفة أفضل مما ورد في قوله تعالى: (عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ).
وهذا الفقر شامل في حياة الإنسان، فهو لا يملك وجوده ولا نفسه ولا عقله وإرادته ولا المواهب التي أودعها الله في نفسه، ولا سلامته ولا الهدى ولا التقوى، ولا التوحيد. وإنما ذلك كله مما آتاه الله تعالى، وهو مالكه وخالقه، وصانعه وواهبه، وكلما وهبه الله من أموال وبنين وأزواج وموقع ونفوذ وسلطان ونعمة فهو أمانة من عند الله أودعها عنده، وجعله خليفة عليه. فهو لا يملك شيئاً من دنياه وآخرته ومعاشه ومعاده، وإنما ذلك كله ملك لله.
ولا يقدر على شيء مما يقوم به إذا سلبه الله ما رزقه من القدرة، فلا يتحرك، ولا يتنفس، ولا يتعلم، ولا يأخذ، ولا يعطي، ولا يتزوج، ولا ينجب، ولا يفتح، ولا يغلق، ولا ينطق، ولا يأمر، ولا ينهى إلاّ بتقدير الله. فهو من دون تمليك الله وتقديره لا شيء. وتعلقه بالله من الإضافة الإشراقية، وليس من الإضافة المقولية – كما قلنا – فهو ليس شيئاً يتعلق بالله، وإنما هو محض التعلق بالله بخلاف الإضافة المقولية التي تتألف من شيئين اثنين يتعلق أحدهما بالآخر.
وكما لا يملك شيئاً ولا يقدر على شيء .. كذلك لا يقدر على أن يدفع عن نفسه ضراً من مرض أو عدواً أو قضاء سوء إلاّ بتقدير الله تعالى، وهذا هو الوجه الأول.
التعلق النفسي بالله:
وإذا وعى الإنسان من نفسه هذه الحقيقة، وعرف أنه لا يملك شيئاً، ولا يقدر شيء من الخير، ولا دفع شيء من الضر عن نفسه إلاّ بالله تعالى.. أقول: إذا وعى الإنسان هذه الحقيقة حق الوعي، ينقلب رجاؤه كله إلى الله وثقته بالله، ورغبته فيما عند الله، وخوفه من عند الله، وحبه لله، وشوقه وأنسه إلى الله، وهذا هو التعلق النفسي بالله، ولهذا التعلق وجهان: وجه إيجابي هو الثقة بالله، والرجاء والرغبة فيما عند الله، والخوف من عند الله. ووجه سلبي هو نفي الخوف من عند غير الله، يخشونه ولا يخشون أحداً إلاّ الله [6]. ونفي الرجاء والرغبة إلى غير الله، إلاّ أن يكون في امتداد الرجاء والرغبة إلى الله وفي امتداد حب الله وفي امتداد مخافة الله. وهو يؤول إلى الرجاء في الله والرغبة فيما عند الله والخوف من الله. وهذا هو الوجه الثاني للقضية المتقدمة.
الحركة النفسية إلى الله:
وهذا هو الوجه الثالث لنفس القضية، وهو حركة النفس إلى الله.. فإن النفس تتحرّك في امتداد تعلقاتها، فإذا تعلّقت ثقتها بالله وآمنت بقوته، وسلطانه توكلت على الله، وإذا كان رجاؤه وأمله في الله سأل الله تعالى وطلب منه ودعاه لا محالة. وإذا آمن بألوهية الله أطاع الله، وإذا آمن بربوبية الله شكر الله، وإذا آمن بسلطان الله وأمره ونهيه وغضبه خاف الله، وإذا عرف قدرة الله على حمايته استعاذ بالله، ولجأ إلى الله .. وهذه هي حركة النفس الى الله، وهي الوجه الثالث لنفس القضية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] النحل: 75
[2] فاطر: 15
[3] النحل: 75
[4] العلق: 6-7
[5] العلق: 7
[6] الفتوحات المكية، ج3، ص196
الشيخ نجم الدين الطبسي
د. سيد جاسم العلوي
السيد عبد الحسين دستغيب
عدنان الحاجي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عباس نور الدين
السيد عادل العلوي
حسين حسن آل جامع
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق