مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

حقيقة العبودية (2)

ونعيد النظر مرة أخرى بالإجمال إلى هذه القضايا الثلاثة التي هي ثلاثة وجوه لقضية واحدة:

 

وعي الفقر إلى الله.

 

التعلق النفسي بالله.

 

تحرك النفس إلى الله.

 

وبعد هذا الإيضاح نستطيع أن نقرأ هذا النص من الرائعة العلوية للإمام علي بن الحسين (ع) من دعاء أبي حمزة الثمالي، فهو يصوّر لنا الوجه الثاني والثالث لوعي الفقر إلى الله.

 

والآن نتأمل في النص: (سَيِّدي عَلَيْكَ مُعْتَمَدي وَمُعَوَّلي، وَرَجائي وَتَوَكُّلي، وَبِرَحْمَتِكَ تَعَلُّقي، وَبِفَنائِكَ اَحُطُّ رَحْلي، وَبِجُودِكَ اَقْصِدُ طَلِبَتي، وَبِكَرَمِكَ اَيْ رَبِّ اسْتَفْتِحُ دُعائي، وَلَدَيْكَ اَرْجُو فاقَتي، وَبِغِناكَ اَجْبُرُ عَيْلَتي، وَتَحْتَ ظِلِّ عَفْوِكَ قِيامي، إلى جُودِكَ وَكَرَمِكَ اَرْفَعُ بَصَري، وإلى مَعْرُوفِكَ اُديمُ نَظَري).

 

أنت ثقتي ومآلي ورجائي، وموقع توكلي، وأنا متعلق برحمتك وبساحة رحمتك أنزل (أحط رحلي) وأقصد طلبتي ثقة بجودك وكرمك، وافتتح دعائي وطلبتي باسمك وعندك – وحدك – أطرح فاقتي وفقري وأرجو منك أن تغنيني وتدفع فاقتي .. الخ.

 

فَلا تُحْرِقْني بِالنّارِ وَاَنْتَ مَوْضِعُ اَمَلي، وَلا تُسْكِنِّىِ الْهاوِيَةَ، فَاِنَّكَ قُرَّةُ عَيْني، يا سَيِّدي لا تُكَذِّبْ ظَنّي بِاِحْسانِكَ وَمَعْرُوفِكَ فَاِنَّكَ ثِقَتي، وَلا تَحْرِمْني ثَوابَكَ، فَاِنَّكَ الْعارِفُ بِفَقْري.

 

ثم يقول (ع) في نفس السياق: (فَلا تُحْرِقْني بِالنّارِ وَاَنْتَ مَوْضِعُ أمَلي، وَلا تُسْكِنِّىِ الْهاوِيَةَ فَإنَّكَ قُرَّةُ عَيْني، يا سَيِّدي لا تُكَذِّبْ ظَنّي بِاِحْسانِكَ وَمَعْرُوفِكَ فَإنَّكَ ثِقَتي، وَلا تَحْرِمْني ثَوابَكَ فَإنَّكَ الْعارِفُ بِفَقْري).

 

وهل يمكن أن يخيب الله تعالى أمل عبد يضع أمله ورجاءه كله في رحمة الله.. فيحرقه الله بالنار بذنوبه وسيئاته؟ وهل يمكن أن يقابل الله تعالى هذا الأمل الذي وضعه في قلب عبده فيخيّب أمله، ويؤاخذه بذنوبه ويحرقه بالنار؟ وهل يمكن أن يسكن عبده الهاوية (الهاوية – أعاذنا الله – من دركات الجحيم، وهو منزل الذين تخف موازين أعمالهم الصالحة -وأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ - فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ)[1]. يتعذب فيها، وهو يحب ربه تبارك وتعالى، ويضع فيه كل رجائه وأمله وحبه، وهو تعالى قرة عينه؟

 

إلهي إنْ كانَ قَدْ دَنا اَجَلي وَلَمْ يُقَرِّبْني مِنْكَ عَمَلي فَقَدْ جَعَلْتُ الاْعْتِرافَ اِلَيْكَ بِذَنْبي وَسائِلَ عِلَلي.

 

يعلمنا الإمام (ع) أن نناجي الله تعالى فنقول: إلهي إنْ كانَ قَدْ دَنا أجَلي، وَلَمْ يُقَرِّبْني مِنْكَ عَمَلي.. فإني ألجأ إلى وسيلة أخرى، تقربني منك وهي الاعتراف بالذنوب والسيئات فإن لدى العبد وسيلتين إلى الله:

 

الوسيلة الأولى هي العمل الصالح وهو وسيلة الصالحين، وإذا دنا أجل العبد، ولم يجد في حياته من الأعمال الصالحة ما يقربه إلى الله، فلا يبقى لديه إلاّ الوسيلة الأخرى، وهي الاعتراف بالذنوب والسيئات.

 

ومن عجب أن الاعتراف بالذنوب والسيئات يقرب الإنسان إلى الله، كما تقرب الأعمال الصالحة صاحبها إلى الله.. إلى هذه الحقيقة يشير القرآن الكريم، يقول تعالى: (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)[2]. والآية الكريمة واضحة في أن الله تعالى يبدل سيئات عباده حسنات. ولكن كيف؟

 

الآلية التي تتحول بها السيئات إلى الحسنات هي الاستغفار والاعتراف. ومآل الاعتراف إلى الاستغفار.

 

والسؤال الثاني والثالث: ما هو حدود الاعتراف؟ وكيف يُقرّب الاعتراف صاحبه إلى الله؟

 

إن الاعتراف إلى الله ليس لكي نُسمع الله ذنوبنا، فإن الله تعالى يعلم بسيئاتنا وذنوبنا اعترفنا له أم لم نعترف. وإنما الغاية من هذا الاعتراف أن نشعر أنفسنا بذل المعصية بين يدي رب العالمين.

 

فإن العبد إذا استعرض بين يدي الله ذنوبه وسيئاته، يعترف بها ذنباً بعد ذنب، وسيئة بعد سيئة. ويشعر بذل المعصية بين يدي الله. والاستشعار بذل المعصية بين يدي الله يمنح الإنسان عزماً على الكف عن المعصية، ويشعره بقبح الذنب والتجري على الله.

 

وهذه النقاط جميعاً من منازل رحمة الله فإن رحمة الله تعالى هابطة باستمرار واتصال، ولا تنقطع هذه الرحمة.. ولهذه الرحمة منازل تنزل الرحمة عندها، وبعكس ذلك هناك مواقع في حياة الناس نائية عن رحمة الله.

 

فمن الناس من يعرف منازل الرحمة الإلهية فيضعون أنفسهم في هذه المنازل، فتصيبهم رحمة الله، كل بقدر وعائه النفسي والعقلي. ومن الناس من يعيش نائياً عن منازل رحمة الله، فلا تصيبه رحمة الله إلاّ بقدر محدود يشمل الناس جميعاً، مما لابد لهم منه في دنياهم.

 

وليس العجز في رحمة الله ولا شح في رحمة الله، وإنما الناس يختلفون في القرب والبعد من رحمة الله وتختلف أوعيتهم النفسية والعقلية في النيل من رحمة الله.

 

ومآل اختلاف أوعية الناس في النيل من رحمة الله هو موضعهم من منازل رحمة الله، فكلما يكون مواضعهم أقرب إلى منازل رحمة الله تزداد وعاء نفوسهم وعقولهم في النيل من الرحمة الإلهية.

 

فالشأن كل الشأن إذن في نيل رحمة الله، هو معرفة منازل الرحمة والحصول عندها.

 

منازل الرحمة

 

ومنازل رحمة الله كثيرة فالعبودية والذل بين يدي الله من منازل الرحمة، والاستكبار والأنانية تحجب الإنسان عن منازل الرحمة. ومهما كان العبد يشعر بالذل بين يدي الله يكون أقرب إلى منازل رحمة الله.

 

ووعي فقر العبد إلى الله من منازل رحمة الله، وتخيل الاستغناء عن الله والطغيان يبعد الإنسان عن منازل رحمة الله، والإيمان من منازل الرحمة، والكفر والشرك يبعدان الناس من منازل رحمة الله والعلم والمعرفة من منازل رحمة الله والجهالة تبعد الإنسان من رحمة الله والأدب من منازل رحمة الله وسوء الأدب يبعد الإنسان من رحمة الله. والإيثار من منازل الرحمة والإثرة تبعد الإنسان عن منازل رحمة الله.

 

والشكر من منازل الرحمة، والكفران يبعد الإنسان عن منازل رحمة الله والقناعة من منازل الرحمة. والطمع والجشع يبعدان الإنسان عنها. والبكاء وانكسار القلوب من منازل الرحمة، والفرح والحبور يبعدان الإنسان عن منازل الرحمة. والطاعة من منازل رحمة الله، والمعصية تبعد صاحبها عن منازل الرحمة. والسؤال من الله والدعاء من منازل الرحمة. والاستكبار من الله يبعد الإنسان عن رحمة الله. (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[3].

 

والرقة من منازل الرحمة، وقسوة القلوب تبعد الإنسان عن رحمة الله وقصر الأمل في الدنيا يقرب الإنسان من منازل الرحمة. وطول الأمل يبعد الإنسان عن رحمة الله. وذكر الله من منازل الرحمة. والإعراض عن ذكر الله يبعد الإنسان عنها. والذكر من منازل الرحمة، والغفلة تبعد الإنسان عن منازل الرحمة. ومصاحبة الصالحين من منازل الرحمة. وصحبة الظالمين والفاسقين تبعد الإنسان عن رحمة الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] القارعة: 8-9

[2] الفرقان: 70

[3] غافر: 60

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد