الموسم العاشورائي 1446 هـ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد منير الخباز القطيفي
عن الكاتب :
رجل دين وخطيب مفكر وكاتب، يعد من أبرز علماء القطيف ومن خطبائها، ومن أبرز أساتذة الدراسات العليا (بحث الخارج) في الفقه والأصول في حوزة قم المقدسة، ولد عام 1384هـ (حوالي 1964م)، له العديد من المؤلفات.

السيد منير الخباز: هل تنسجم معجزات الأنبياء مع المنطق العلمي؟

الليلة الثالثة محرم 1446 هـ
آية الله السيد منير الخباز
هل تنسجم معجزات الأنبياء مع المنطق العلمي؟
المركز الإسلامي  (ميشيغان) 

 

صلى الله وسلم عليك يا رسول الله وعلى أهل بيتك المنتجبين، يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً. أعوذ بالله من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: "وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (آل عمران: 49).

آمنّا بالله، صدق الله العلي العظيم.

المحاضرة حول المعجزة التي عبر عنها القرآن بالآية "وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ". هل المعجزة تنسجم مع المنطق العلمي أم لا؟ عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله: "أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ". هل هذا معقول بحسب المنطق العلمي؟ أن الميت يعود حيّاً! موسى بن عمران عليه السلام القرآن يخاطبه: "وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ () قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ () قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ () فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ" (طه: 17-20). انقلاب العصا إلى ثعبان، هل يقبله المنطق العلمي! القرآن عندما يتحدث عن النبي محمد: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَىٰ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (الإسراء: 1). هل يمكن أن ينتقل الإنسان بلا واسطة نقل من البيت الحرام إلى بيت المقدس في ليلة واحدة ويعود إلى مكة؟ هل هذا يقبله المنطق العلمي! إذاً المحاضرة ترتكز على أن المعجزة، هل هي مما ينسجم مع منطق العلم أم لا؟ هنا عندنا محاور ثلاثة:

المحور الأول: ما هي حقيقة المعجزة؟

المحور الثاني: هل تنسجم المعجزة مع منطق العلم؟

المحور الثالث: هل يمكن إثبات المعجزة من خلال الأدلة التاريخية أم لا؟

 

نأتي إلى كل محور. المحور الأول: ما هي حقيقة المعجزة؟ هنا اتجاهات. الاتجاه الأول: الفيلسوف الأمريكي إراف هولاند يقول: (المعجزة ليست شيئاً خارقاً للطبيعة، المعجزة حدث نادر، حدث غير مألوف، لا إنه حدث يخرق القوانين). القوانين الطبيعية قوانين ثابتة، قوانين حتمية لا تتخلف ولا تستثنى. عندما يقول القانون إن كل ماء تبلغ درجة حرارته 100 فإنه يغلي، هذا قانون. قانون فيزيائي، كل ماء تبلغ درجة حرارته 100 فإنه يغلي، هذا قانون لا يقبل الاستثناء، لا يقبل التخلف. إذاً، أين المعجزة؟ المعجزة هي عبارة عن حصول حوادث طبيعية بأسبابها الطبيعية، ولكن اقتران حادثتين قد ينتج حادثة نادرة، حادثة غير مألوفة تسمى المعجزة. بينما الاتجاه الآخر سومبورن، هذا أستاذ الفلسفة المسيحية في أكسفورد، يقول لا، المعجزة تخرق القوانين الطبيعية، ليست المعجزة مجرد حدث نادر، لا، لا.. المعجزة أكثر من ذلك، المعجزة تخرق القانون الطبيعي، المعجزة تتحدى القانون الطبيعي. كيف يمكن أن نقول إن عودة الميت حياً مجرد حدث نادر؟ هذا ليس حدثًا نادراً، هذا حدث يخرق القانون الطبيعي. انقلاب العصا إلى ثعبان "هِىَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ () قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ () فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ". انقلاب العصا إلى ثعبان، هذا ليس مجرد حدث نادر، هذا خرق للنواميس، خرق للقوانين الطبيعية. إذاً، سومبورن ينسجم مع كلمات علماء الإسلام. علماء الإسلام يقولون المعجزة خرق للقوانين، خرق للنواميس الطبيعية. يعني عندما ترجع إلى ابن سينا في "الإلهيات" أو إلى نصير الدين الطوسي في "تلخيص المحصل"، الجميع يقول إن المعجزة خرق للعادة، ومعنى أنها خرق للعادة، يعني استثناء من القانون الطبيعي. إذاً، عرفنا الآن المعجزة.

 

نأتي الآن إلى المحور الثاني: هل تنسجم المعجزة مع المنطق العلمي؟ يعني هل العلم يتحمل المعجزة! هل يمكن أن يقبل العلم خرقاً للقوانين الطبيعية؟ لو خلينا نحن والعلم، هل يقبل العلم أن يعود الميت حياً! هل يقبل العلم انقلاب العصا إلى ثعبان أم لا! من هنا نأتي إلى هذين الاتجاهين: الاتجاه الفلسفي والاتجاه العلمي. يعني كيف نرى الكون، كيف نقرأ الكون؟ هنا رؤيتان:

الرؤية الميكانيكية للكون: الرؤية الميكانيكية ترى الكون يعيش على الحتمية الجبرية، يعني قوانينه لا تتخلف. الرؤية هذه الميكانيكية نعبر عنها بالجبرية النيوتنية، يعني قوانين نيوتن قوانين قسرية لا تتخلف ولا تستثنى. لماذا! يقول لك، لا يمكن أن العصا تتحول إلى ثعبان، شيء غير معقول! ميت يعود حياً، شيء غير معقول! لماذا!

أولاً: كل حادثة تحتاج إلى سبب. لا يعقل منطق الصدفة، صدفة العصا تحولت إلى ثعبان. منطق الصدفة منطق مرفوض علمياً.

ثانياً: لكل مسبب سبب يسانخه. طيب، أين المسانخة بين العصا والثعبان؟ هناك قاعدة عقلية مسلمة: لكل مسبب سبب يسانخه، يعني سبب من سنخه. مثلاً، بذرة التفاح هل يعقل أن بذرة التفاح تثمر عنب؟ ما يصير، بذرة التفاح لا تثمر إلا تفاحاً. لازم مسانخة بين السبب والمسبب. هل يعقل أن المادة المنوية للحصان تنتج ذئباً أو أسداً؟ لا، غير معقول! يعني ما في مسانخة بين السبب والمسبب. لابد من مسانخة بين السبب والمسبب، السبب عصا، المسبب ثعبان. كيف ينسجمان؟ لا توجد مسانخة بين السبب والمسبب. إذاً، المنطق العلمي بحسب هذه الرؤية الميكانيكية يرفض صدور المعجزة. يقول لك، هذه ذكرها القرآن أو ذكرتها الكتب السماوية، حكاية عن معتقدات لتلك الأقوام، أما أنها وقعت لا، هذا شيء غير معقول. هذه الرؤية الميكانيكية.

 

نأتي إلى الرؤية الفلسفية: الرؤية الفلسفية تقول الكون كله أسرة واحدة مترابطة، يؤثر بعضه في البعض الآخر. كيف يعني يؤثر بعضه في البعض الآخر؟ نرجع إلى كلمات ابن سينا، وهو فيلسوف مشهور، في كتاب "الإشارات والتنبيهات"، يقول: كل حادث يحتاج إلى عامل يسهم في حدوثه. العوامل ثلاثة: (إما عامل طبيعي، وإما عامل ما ورائي يعني وراء الكون، وراء الطبيعة، وإما عامل روحي "عامل نفسي").

العامل الأول: (عامل طبيعي) مثلاً، نأتي إلى ضوء الشمس، ضوء الشمس له أثر على جميع الكائنات الحية على الأرض من نبات وحيوان وإنسان. تأثير ضوء الشمس على الحياة على الأرض، هذا عامل طبيعي.

العامل الثاني: نأتي إلى حوادث أخرى، عاملها (شيء ما وراء الطبيعة). يعني هناك نظام طولي، نحن عقولنا قاصرة، نحن مقتصر عقولنا على عالم المادة، نرى ونظن أن لا سبب إلا الأسباب المادية. نحن لقصور عقولنا ولضيق معلوماتنا لا نرى أسباباً إلا الأسباب المادية، خلاص نقول ما في سبب غير الأسباب المادية. وبما أنه في عالم الأسباب المادية العصا ما تنقلب ثعبان، إذاً انقلاب العصا إلى ثعبان شيء غير معقول، لأننا قصرنا عقولنا على الأسباب المادية. بينما هناك نظام طولي لهذا الكون، والنظام الطولي يعني كما أن هناك أسبابًا مادية، هناك أسباب علوية، أسباب وراء الطبيعة. تلك الأسباب تتدخل في مسيرة الكون، تتدخل في عالم الطبيعة، تنتج وتسبب وتولد في عالم الطبيعة. السبب لا ينحصر في السبب المادي، هذا عامل ثانٍ.

 

العامل الثالث: (العامل الروحي). أحياناً، الإنسان يبلغ كمالاً روحياً هائلاً يستطيع أن يؤثر في الأشياء التي حوله بسبب قوته الروحية، بسبب كماله الروحي. الأنبياء بلغوا من الكمال الروحي والقوة القدسية في نفوسهم ما جعلهم يستطيعون التأثير في الأشياء التي حولهم من دون الاستناد إلى عامل طبيعي. بالقوة الروحية التي يمتلكها النبي يؤثر في الأشياء. هنا عندما يقول عيسى بن مريم عليه السلام: "وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ"، يعني أنا عندي هذه القوة. بقوتي الروحية أبلغ الخصائص التي بلغها القوى التي وراء الطبيعة، القوى الماورائية: "أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ". إذاً الأسباب لا تنحصر في العوامل الطبيعية، هذه الرؤية الفلسفية. هل العلم يقبلها! انتبه لي بهذه النقطة. سومبورن الذي ذكرناه يقول: نعم، العلم يقبل هذا المنطق الفلسفي. كيف؟ يقول: القوانين العلمية، القوانين الطبيعية قسمان: (قوانين كلية وقوانين إحصائية) والعلم يؤكد ذلك. فرق بين القوانين الكلية والقوانين الإحصائية. القانون الكلي قانون حتمي لا يقبل الاستثناء. أضرب لك مثال: الكون يعتمد على قوى أربع: (قوة الجاذبية، القوة الكهرومغناطيسية، القوة النووية الشديدة، القوة النووية الضعيفة). الكون يقوم على قوى أربع، لولاها لتبعثر الكون. هذا القانون كلي حتمي لا يقبل الاستثناء. لكن عندنا قوانين إحصائية، يعني قانون ثبت بالاستقراء، إذاً هو قانون ما ثبت إلا بالاستقراء، إذاً هو قابل للشنو؟ الاستثناء. القوانين التي لم تثبت إلا بالتجربة وبالاستقراء من دون ضرورة، قوانين تقبل الاستثناء، تقبل التخلف، يمكن أن يخرقها حادث إعجازي. أضرب لك أمثلة على القوانين الإحصائية الاستقرائية. القانون الأول: مثلاً، الذهب. متى يذوب الذهب؟ يذوب، يتحول إلى مائع. يذوب الذهب ويتحول إلى مائع إذا بلغت درجة حرارته 1063 درجة مئوية، يذوب الذهب، يتحول إلى مائع. هذا قانون، لكن هذا قانون ليس قانوناً كلياً، هذا قانون استقرائي. بالاستقراء وصلنا إلى أن درجة ذوبان الذهب 1063، لكن هذا القانون قابل للتخلف، قابل للاستثناء.

 

نأتي إلى مثال آخر. القانون الثاني للحرارة، القانون الثاني للحرارة ماذا يعني؟ القانون الثاني للحرارة يعني أمرين: الأمر الأول: أن انتقال الطاقة الحرارية من جسيم إلى جسيم تارة يكون تلقائياً، وتارة يكون محتاجاً إلى الشغل. أنت تجيب ماء وتخليه فوق النار، تنتقل الطاقة الحرارية من النار إلى الماء، هذا انتقال تلقائي. أما تأخذ ماء حاراً يغلي وتضعه في الفريزر، تضعه في الثلاجة، تضعه هناك. هذا الماء حتى يتحول إلى ثلج، حتى يتجمد، العملية ليست تلقائية، العملية تحتاج إلى شغل، يعني تحتاج إلى عامل خارجي وهو ثلاجة تقتضي ذلك. هذا القانون الثاني للحرارة. القانون الثاني للحرارة أيضاً يقرر أمراً آخر وهو انتقال الطاقة من جسم إلى جسم لا يعني أنها تنتقل بكاملها، تنتقل بجزء منها. شوف مثلاً، ماكينة السيارة، ماكينة السيارة لا تهدر الطاقة الموجودة في البنزين كلها، إنما تهدر جزءاً منها في عملية الاحتراق. القانون الثاني للحرارة، الذي هو من أسس الفيزياء الحرارية، هل هذا القانون قابل للتخلف، قابل للاستثناء؟ ممكن، هو ليس كلياً، هو قانون استقرائي، ثبت بالإحصاء، ثبت بالاستقراء، فهو قابل للاستثناء. إذاً، انتقال الحرارة من جسم إلى جسم أمر قابل للاستثناء. من هنا يقول القرآن، لما ألقي إبراهيم عليه السلام في لجة النيران، لم تنتقل الطاقة الحرارية من النار إلى جسم إبراهيم، يعني القانون الثاني للحرارة تخلف هنا، القانون الثاني للحرارة استثني هنا: "قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ" (الأنبياء: 69). القوانين على قسمين. ما تجي أنت تقول المعجزة ما يقبلها العلم، افهم! القوانين قسمان: هناك قوانين كلية لا تقبل الاستثناء، وهناك قوانين إحصائية تقبل الاستثناء، ومثلنا لهذه القوانين. إذاً، بحسب المنطق العلمي المعجزة يمكن أن تحدث وتخرق القوانين الطبيعية إذا كانت من قبيل القوانين الإحصائية.

 

علماء المسلمين يقولون أكثر من هذا: المعجزة تخرق القانون، ولو كان كلياً، ولو كان حتمياً، في عالم المادة، قابل للخرق، قابل للاستثناء. طبعاً، علماء المسلمين على ثلاثة آراء:

الرأي الأول: أن السبب المؤثر في حدوث المعجزة هو الإرادة الإلهية. ما نحتاج إلى واسطة أبداً، إرادة الله كافية في حدوث الإعجاز: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (يس: 82)، "وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (الإسراء: 85). بعدك أنت صغير أيها الإنسان، ترى ها بعدك صغير، بعدك ما مشيت، أنت وين رحت! أنت أوووه، بلغت سطح القمر، ما أكثر من هذا! ما زلت أيها الإنسان صغير، ما زال علمك قليلاً! ما زال أفقك ضيقاً! ما زلت لم تطلع على كل أسرار الكون وكل ألغازه وكل طلاسمه وكل مناشئ الحياة فيه. لأجل ذلك قل لا أعلم ولا تقل أعلم أن المعجزة يستحيل حصولها. قل على الأقل لا أعلم، "وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا". إذاً، الرأي الأول يقول: إرادة الله هي النافذة في الكون كله، هي المؤثرة، وبالتالي لا تحتاج الإرادة إلى واسطة في حدوث المعجزة: "أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ" يعني بإرادته.

 

الرأي الثاني يقول لا، المعجزات سببها القوة النفسية للأنبياء. يعني الله أودع في الأنبياء والأوصياء قوة روحية قدسية، بواسطة هذه القوة يسيطرون على الأشياء التي حولهم، وببركة هذه السيطرة يؤثرون فيها هدماً وبناءً وتغييراً. يعني أنت مثلاً عندما تقرأ في الزيارة الجامعة للأئمة الطاهرين، ماذا تقرأ في الزيارة الجامعة؟ "بكم فتح الله، بكم يختم، بكم ينزل الغيث، بكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، بكم ينفّس الهم، بكم يكشف الضر". القوة الروحية لهذا الإنسان نبياً أو إماماً تؤهله لأن يؤثر في الأشياء التي حوله، هذا رأي ثانٍ.

 

الرأي الثالث، شوف رأي صاحب الميزان، العلامة الطباطبائي في الميزان في الجزء الأول، صفحة 72. ماذا يقول؟ يقول: وراء كل معجزة سبب طبيعي لكن مجهول. يعني لا تظن أن المعجزة حدثت بدون سبب طبيعي، لا، وراءها سبب طبيعي. حتى أبين لك هذه النقطة، الآن مثلاً ولادة الإنسان، تكون الإنسان في رحم أمه، ما هو السبب؟ سبب لقاء الذكر والأنثى، يعني تلقيح الحويمن المنوي بالبويضة، بويضة الأنثى، هذا هو السبب لوجود إنسان في رحم المرأة. هل هذا سبب حتمي، أو يمكن أن يحل محله سبب آخر! نحن لم نجد إلا هذا السبب، يعني هذا اللي سميناه سبب إحصائي، سميناه سبب استقرائي. يعني إذا استقرأنا البشرية من يوم ولادة أبناء آدم إلى هذا اليوم، قلنا هناك سبب استقرائي يقول لا يتولد الإنسان إلا بحويمن منوي ملقح مع بويضة الأنثى، ما يمكن أن يولد إلا بهذا الطريق. بس هذا سبب استقرائي، لعل هناك سبباً آخر، يعني لعل العلم في المستقبل يكتشف الخلية الحية التي يتكون منها الإنسان، فإذا قام بتخليق تلك الخلية الحية، يولد الإنسان، يتكون في بطن أمه وإن لم يكن هناك لقاء بين الذكر والأنثى.

 

نحن نشهد السبب المعروف، لكن لعل هناك سبباً مجهولاً. ولذلك جاء عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام من غير أب: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٍۢ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ" (آل عمران: 59). إذاً، نحن ما عندنا نتيجة لقصور معلوماتنا، نرى السبب الظاهر، نرى السبب المعروف، لكن من المحتمل أن هناك سبباً طبيعياً وراء ذلك. العلامة الطباطبائي يقول: كل المعجزات وراءها سبب طبيعي، إذاً قانون السببية لم يتخلف وقانون السنخية لم يتخلف. كل المعجزات، إبراء الأكمه، إبراء الأبرص، إحياء الموتى، انقلاب العصا إلى ثعبان، كل المعجزات وراءها سبب طبيعي مجهول لدينا، المعصوم اطلع عليه ونحن لم نطلع عليه. المعصوم اكتشف ذلك السبب الطبيعي، ومن خلاله استطاع أن يوجد المعجزة، يعني بعلمه اكتشف ذلك. القرآن الكريم يقول في حق النبي إبراهيم عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام: "وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" (الأنعام: 75). هو إنسان، شلون يشوف ملكوت السماوات والأرض! يعني يمتلك العلم، يمتلك علماً بملكوت السماوات والأرض، وببركة هذا العلم يستطيع إبراهيم أن يوجد الأشياء التي تخرق القوانين الطبيعية المعلومة لدينا: "وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ" (الأنعام: 75). إذاً، بناءً على نظرية السيد الطباطبائي، ما نراه اليوم قانوناً حتمياً يمكن أن نراه في المستقبل قانوناً استثنائياً. ما نراه اليوم قانوناً لا يتخلف، العلم يتقدم، من الممكن في المستقبل نكتشف أنه قانون يقبل الاستثناء والتخلف. إذاً، انتهينا من هذا المحور: المعجزة لا يرفضها المنطق العلمي.

 

نأتي إلى المحور الأخير: هل يمكن أن نثبت المعجزة بالدليل التاريخي؟ طيب، قلنا المعجزة أمر ممكن، بس هل تثبت بدليل تاريخي؟ يعني فرق بين الإمكان الثبوتي والإمكان الإثباتي. المعجزة ممكن أن تحصل، لكن هل يمكن إثباتها بالدليل التاريخي! نقل المؤرخون أن عيسى بن مريم أحيا الموتى. هل نستطيع أن نقبل الدليل التاريخي في إثبات المعجزة؟ نقل المؤرخون أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله عرج به إلى السماء، مثلاً، بغض النظر عن سورة النجم، هل يمكن أن نقبل ذلك؟ هل يمكن أن تثبت المعجزة بالدليل التاريخي أم لا؟ ديفيد هيوم وأنتوني فلو فيلسوفان أنكرا ذلك. قالوا: المعجزة ما تثبت بدليل تاريخي حتى لو كانت هي أمراً ممكناً. في مقابلهم علماء الأديان، ومنهم علماء الإسلام، يقولون: يمكن أن تثبت المعجزة بالدليل التاريخي.

 

 ما هو دليل هيوم في الإنكار؟ هيوم يقول: التفتوا إلى أمرين:

الأمر الأول: الدليل الوحيد لإثبات الواقع هو الدليل التجريبي. كل شيء لم يجرب لا يثبت، الدليل في إثبات الواقع التجربة. القوانين العلمية ثبتت بالتجربة، ببركات التجربة ثبت لنا أن الماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته 100. القوانين العلمية ثبتت بالتجربة، أما المعاجز كيف ثبتت بالتجربة! الدليل الوحيد الذي يثبت الواقع هو التجربة. القوانين العلمية ثبتت بالتجربة، أما المعاجز هي أمر لا يتكرر، يعني أمر لا يخضع للتجربة. إذا كان أمراً لا يخضع للتجربة ولا يخضع للتكرار، كيف يمكن إثبات أنه واقع؟ هذا الأمر الأول.

 

الأمر الثاني: أنت تقول والله نقل المؤرخون أيضاً دليل تجريبي، لأن نقل المؤرخين شهادات، والشهادات غالباً ما تصيب الواقع. فإذا الشهادة دليل تجريبي، والشهادة قررت أن المعجزة حصلت، يقول لك: لا. لو كان المشهود به أمراً طبيعياً، والله جماعة نقلوا لنا حادث اصطدام سيارات، جماعة نقلوا لنا حدوث بركان، زلزال في مكان، ممكن أن نقبل. أما إذا كانوا ينقلون أمراً غير طبيعي، إنسان يطير في الهواء، إنسان يسري في ليلة واحدة بدون واسطة نقل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ويرجع في نفس الليلة، بما أن المشهود به أمر غير طبيعي، لا يمكن أن يثبت بالنقل التاريخي. هذا كلام هيوم. في مقابل كلام هيوم نذكر ملاحظات أربع، وننهي بها المحاضرة.

 

الملاحظة الأولى: القانون مهما بلغ، كما كررنا الكلام، القانون الطبيعي مهما بلغ هو قانون إحصائي، يعني ثبت بالاستقراء، لم ينشأ عن ضرورة حتمية عقلية كي يمنع من التخلف، كي يمنع من الاستثناء. القانون الطبيعي غاية ما يقول في الظروف المشابهة لا يتخلف. يعني الآن أضرب لك مثال: الماء في الظروف العادية إذا بلغت درجة حرارته 100 يغلي، لكن خلي هذا الماء فوق جبل جليدي، الماء نفسه خليه فوق جبل جليدي حتى لو بلغت درجة حرارته 100 لا يغلي، قابل للاستثناء. القانون في الظروف العادية، في الظروف المشابهة لا يقبل الاستثناء، لا أن القانون الطبيعي لا يقبل الاستثناء في جميع الحالات حتى يؤدي ذلك إلى إنكار إثبات المعجزة. هذه الملاحظة الأولى.

 

الملاحظة الثانية: افترض أن القانون الطبيعي قانون كلي، لكن إذا كانت المعجزة منقولة بالتواتر، التواتر يفيد اليقين. كيف يعني التواتر يفيد اليقين؟ يعني الآن مثلاً نأتي إلى حادثة الغدير. يقولون ثبتت بالتواتر أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في غدير خم أخذ بيد علي بن أبي طالب ورفعها وقال: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، عاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار". حديث الغدير ثبت بالتواتر. يعني شنو ثبت بالتواتر؟ يعني في كل جيل، في كل 100 سنة من يوم الغدير إلى الآن، في كل 100 سنة ينقل حديث الغدير عدد كبير، يطمئن بعدم تواطؤهم على الكذب لاختلاف أعراقهم وثقافاتهم. فحديث الغدير حديث يقيني لأنه ثبت بالتواتر. المعجزات، بغض النظر عن نقل القرآن وهو كتاب سماوي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المعجزات، معجزات عيسى، معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله ثبتت بالدليل المتواتر، والتواتر يفيد اليقين والجزم والقطع، فنرفع يدنا عن القانون الطبيعي بالتواتر.

 

الملاحظة الثالثة: ترى الكون مملوءاً بالقوانين، نحن اكتشفنا بعضها ولم نكتشف البعض الآخر. فربما قانون يكسر قانوناً آخر من حيث لا نعلم. نحن نقول القانون يقول: الميت لا يرجع حياً. ربما هناك قانون كوني لم نكتشفه بعد يزاحم هذا القانون ويكسره في بعض الحالات وفي بعض الظروف بحيث يرجع الميت إلى الحياة. العصا لا تنقلب ثعبان. طيب، ليس أي عصا، العصا التي كانت بيد من؟ ما قلنا كل عصا، هي عصا معينة، العصا التي كانت بيد موسى بن عمران عليه السلام. إذاً، هناك قانون معين، لعل هناك قانون طبيعي يرتبط بهذه العصا الموجودة عند موسى بن عمران عليه السلام، يكسر القانون المعروف، ويزاحمه، ويؤثر في انقلاب العصا ثعباناً. بالنتيجة، الكون مملوء بالقوانين، بما أنه مملوء بالقوانين، اكتشاف بعضها لا يلغي حدوث الإعجاز، لعل هذه القوانين تتزاحم وتتكاسر، يكسر بعضها بعضاً في بعض الظروف وفي بعض الحالات الاستثنائية.

 

الملاحظة الرابعة: طيب، خلاص، لنفترض عندنا قوانين كلية حتمية، ولكن هل هذه القوانين حتمية حتى أمام الإرادة الربانية؟ إذاً، أنا إنسان غير مؤمن بالله، صح؟ أو إنسان مو مؤمن بالله، مو مؤمن أن هناك إرادة وراء هذا العالم، معقول! وإذا إنسان يؤمن بالله من أي دين، من أي ملة، لا يمكن أن يقبل أن القانون يقهر الإرادة الإلهية، أو القانون يقف حائلاً أمام الإرادة الإلهية، أو القانون يقف مانعاً أمام الإرادة الإلهية. مهما بلغ القانون من الكلية والحتمية، لا يعني أنه قانون فوق من خلق القانون، فوق من جعل القانون. بما أنه قانون من عنده تعالى، إذاً، لا يعقل أن يكون القانون فوق إرادة من خلقه، ومن جعله، ومن أسسه. لأننا لا نؤمن بالتفويض، نحن ذكرنا هذه النقطة البارحة: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ" (المائدة: 64). هؤلاء يقولون بالتفويض! شنو يعني التفويض؟ يعني الله خلق الكون، وبعدين اعتزل، قال: بعد عندي تقاعد، واعتزل، وصار الكون يمشي بقوانينه بدون إرادة إلهية، بدون تدخل إلهي. لذلك القانون لا يقبل الاستثناء، لا يقبل التخلف، لا، ليس هناك تفويض. إرادة الله نافذة في كل حوادث الكون من أولها إلى آخرها: "بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ".

 

نأتي الآن في الختام، نطبق هذه المعجزة وهذا الدليل الإعجازي على نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره في كتابه "المرسل، الرسول، الرسالة"، يثبت نبوة النبي من خلال دليل حساب الاحتمالات، وهو دليل رياضي. خلينا نطبقه في المقام. يقول: كلما كانت النتيجة أكبر من المقدمات كشفت لنا أن هناك عاملاً خارجياً وراء المقدمات تدخل في صياغة النتيجة. نطبقه على مثال: افرض عندك أنت طفل يدرس ثاني ابتدائي أو ثالث ابتدائي. شنو تتوقع منه! عندما تقرأ مؤهلاته ماذا تتوقع منه؟ طفل في ثاني ابتدائي، طفل ما مر بتجربة أدبية، طفل ليس له خبرة لغوية، طفل لم يسبق منه أن دخل عالم الشعر والأدب، فجأة، وإذا الطفل يقرأ لنا قصيدة تضاهي شعر المتنبي أو تضاهي شعر أحمد شوقي. هذا يقول الناس: النتيجة أكبر من المقدمات. مقدمات أنه طفل ثاني ابتدائي، ليس له خبرة باللغة ولا بالأدب، لم يسبق له تجربة في هذا الميدان، هذه المقدمات. النتيجة أكبر بكثير من المقدمات، إذاً، بما أن النتيجة أكبر من المقدمات، نكتشف أن هناك عاملاً خارجياً تدخل في صياغة هذه النتيجة.

 

هناك شاعر بارع هو الذي صاغ القصيدة، صح؟ نجي نطبقها على القرآن والنبي محمد، النبي محمد صلى الله عليه وآله. طبعاً، نحن نمشي بحسب الظاهر، هذا النبي لم يدخل مدرسة، هذا النبي لم يقرأ كتب الفلسفة، هذا النبي لم يدرس عند علماء اليهود والنصارى ليكتسب منهم المعلومات، هذا النبي لم يشارك في حلبة أدب ولا حلبة شعر في الجاهلية إطلاقاً، هذا النبي عاش في مجتمع جاهلي متخلف علمياً، وإن كان متقدماً أدبياً. هذه هي شنو المقدمات. أما النتيجة، ما هي؟ النتيجة تعني الكتاب. هذا الكتاب من جهة قد جاء بقصة البشرية من يوم آدم إلى يوم النبي بشكل دقيق. هذا الكتاب في قمة البلاغة والفصاحة التي عجز عنها كبراء القوم في ذلك المجتمع العربي. هذا الكتاب جاءنا بأسرار علمية اكتشفها العلم الحديث بعد مرور السنين: "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ () وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ" (الذاريات: 47، النمل: 88). هذا الكتاب جاء بلائحة تشريعية قانونية تضم 700 آية، تتحدث عن القوانين والتشريعات التي تنظم مسيرة الإنسان في عباداته، في معاملاته، في حركاته، في سكناته. هذا الكتاب جاء بأبلغ الحكم والمواعظ التي توجه المسيرة الروحية للإنسان. انظر النتيجة، واقرأ المقدمات، قارن بين النتيجة والمقدمة. المقدمات: نبي لم يسبق له تجربة في عالم الأدب والبلاغة، لم يحضر عند مدرس ولا معلم، عاش في مجتمع متخلف. هذه المقدمات. أما النتيجة: كتاب بهذه الجامعية، كتاب بهذه السعة، كتاب بهذا الشمول. إذاً، قارنا النتيجة بالمقدمات، نحكم عقلاً أن هناك يداً غيبية تدخلت في صياغة هذا الكتاب: "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الشورى: 51)، "وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ" (الشورى: 52)، "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ" (الشعراء: 193-195). إذاً، هذا هو الدليل على نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله. ويبقى القرآن المعجزة الخالدة، ويبقى أهل البيت العترة المنصهرين بالقرآن، وهما الثقلان اللذان خلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله. "إني مخلف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي"، لا ينفك القرآن عن أهل، ولا ينفك أهل البيت عن القرآن. بين القرآن وأهل البيت انصهار وتلازم واقتران في كل الأحوال، في كل الظروف. ولذلك ترى الرأس الشريف عُزل عن الجسد الشريف، ومع ذلك وضع على رأس الرمح وهو يقرأ القرآن: "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا" (الكهف: 9). قرب زيد بن أرقم من رأس الحسين وقد ذبلت شفتاه، وجرت الدماء على خديه وقد أغمض عينيه إلا قليلاً. يقول: وصلت عند رأس الحسين وهو على رأس الرمح، فرأيته يتمتم بين شفتيه، أصغيت فإذا به يقرأ القرآن: "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا" (الكهف: 9).

 

رأس ابن بنت محمدٍ ووصيهِ، يا للرجال على قناةٍ يرفعُ، الحسين بن علي رأسه يتكلم بالقرآن لأنه بدأ مسيرة القرآن منذ أن خرج من المدينة إلى أن ختم المسيرة يوم عاشوراء، وهو مع القرآن الكريم بأبي وأمي إلى قبر جده رسول الله. وقف عليه في ظلام الليل، قال: السلام عليك يا جداه يا رسول الله، أنا الحسين فرخك وابن فرختك، إن القوم يريدون قتلي، وأنا بالرغم مني خارج عن جوارك. هوّمت عيناه، رأى جده رسول الله في المنام وهو يقول له: بني حسين، إن لك لدرجة في الجنة لا تنالها إلا بالشهادة، فبادر إلى الشهادة.

ضمني عندك يا جداه في هذا الضريح

علني يا جد من بلوى زماني أستريح

ضاق بي يا جد من فرط الأسى كل فسيح

فعسى طود الأسى يندك بين الدكتين

جد صفو العيش من بعدك بالأكدار شيب

وأشاب الهمّ رأسي قبل أوان المشيب

فعلا من داخل القبر بكاء ونحيب

ونداء بافتجاع يا حبيبي يا حسين

أنت يا ريحانة القلب حقيق بالبلا

إنما الدنيا أعدت لبلاء النبلا

لكن الماضي قليل في الذي قد أقبلا

فاتخذ ذرعين من صبر وحزم سابغين

ستذوق الموت ظلماً ظامياً في كربلا

وستبقى في ثراها عافراً منجدلا

وكأني بلئيم الأصل شمراً قد علا

صدرك الطاهر بالسيف يحز الودجين

وكأني بالأيامى من بناتي تستغيث

سغباً تستعطف القوم وقد عزّ المغيث

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد