
وقد صارت الشام ملاذًا لمن يغضب عليه الإمام لخيانة خانها في عمله، أو جريرة جرها على نفسه. ومطمحًا لمن يريد الغنى والمنزلة، فيجد عند معاوية الإكرام، والرفعة، والعطاء، والمنزلة الاجتماعية.
وقد كتب علي عليه السلام مرة إلى عامله سهل بن حنيف في شأن قوم من أهلها لحقوا بمعاوية: (وإنما هم أهل دنيا مقبلون عليها، ومهطعون إليها (1)، وقد عرفوا العدل ورأوه، وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس عندنا أسوة، فهربوا إلى الأثرة (2) فبعدًا لهم وسحقًا) (3).
وقد وصف عليه السلام سياسة معاوية بقوله: (طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه (4)، يضع ذلك حيث الحاجة إليه: من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم، متبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة) (5).
وهكذا فعلت سياسة معاوية فعلها في مجتمع الإمام، فتمالا رؤساء أصحابه على الخيانة، وتخاذلوا عن نصره فلا يجيبونه حين يدعوهم، ولا ينصرونه حين يستنصرهم، وما أكثر خطبه وكلماته التي أعلن فيها شكواه منهم، وبرمه بهم، من ذلك قوله عليه السلام: (يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال (6). لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرت ندمًا، وأعقبت سدمًا (7). قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحًا، وشحنتم صدري غيظًا، وجرعتموني نغب التهمام أنفاسًا (8)، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب..) (9).
وقد ظهر أثر هذه السياسة على أشده بعد صفين، فحين انتهت مهزلة التحكيم - كما شاء دهاء عمرو بن العاص وغباء أبي موسى الأشعري أو سوء نيته – دأب معاوية على إرسال جيوش صغيرة سريعة فتضرب، وتقتل، وتنهب، وتروع الآمنين دون أن يعترضها معترض. فإذا ما دعا الإمام رؤساء أصحابه إلى اللحاق بها تقاعسوا عنه وصموا أسماعهم دونه.
وأظهر مصاديق هذه الخيانة تجلت يوم سيّر معاوية جيوشه إلى مصر، فقد دعا الإمام رؤساء أصحابه إلى إنجاد محمد بن أبي بكر قبل أن تفوت الفرصة وتملك عليهم مصر، فلم يجبه منهم مجيب حتى انتهى الأمر بسقوط مصر في يد معاوية ومقتل محمد بن أبي بكر رحمه الله.
وقد كان عليه السلام يعرف كيف يجعلهم إلى صفه لو أراد، فيفضلهم، ويعطيهم الأموال، ويحملهم على رقاب الناس، ويرضي غرورهم القبلي، ولكن ذلك كان ينقلب به إلى جبار يدعم ملكه بالسيف، بدل أن يكون أبًا للرعية تدعم سلطانه القلوب. لقد قال لهم مرة: (..وإني لعارف بما يصلحكم ويقيم أودكم (10)، ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي) (11).
هذا هو الواقع الاجتماعي والسياسي الذي كان عليه مجتمع الإمام. ومن الجلي أن مجتمعًا يمارس حياته الاجتماعية والسياسية على هذا النحو مجتمع بعيد عن التقوى بعدًا شاسعًا، فالتقوى والقبلية شيئان متضادان، والتقوى ونصرة الباطل شيئان متضادان، والتقوى وحب الأثرة والتكبر شيئان متضادان.
هذا الواقع كيف كان يسع الإمام أن يعدله، هل كان عليه أن يجاري أهواء أصحابه فيبذل لهم ما تطمح إليه أنفسهم؟. لقد قال: (أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور). هل يقتلهم؟ إن ذلك كفيل بإحراج مركزه وإثارة الناس عليه. هل ينفيهم؟ إن ذلك يدفعهم إلى المجاهرة بولائهم لمعاوية وبذلك يجرون وراءهم قبائلهم.
لقد كان آمن المواقف معهم إبقاؤهم تحت سمعه وبصره، إن قعدوا عن نصرته لا يستطيعون نصرة عدوه. ثم حاول أن يبدل نظرة الناس إليهم ويبدل نظرتهم إلى هذه المطامح التي يطمحون إليها بوسيلتين: الأولى: - وقد كان يتوجه بها إلى الرجل العادي - هي محاربة النزعة القبلية. فقد كان عليه السلام يعلم أن قوة هؤلاء الرؤساء مستمدة من إيمان قبائلهم بهم، فإذا تزعزع هذا الايمان لم يعد لهم من قيمة.
الثانية: هي الموعظة، وهو بيّن فيها للرؤساء أن ما يطمحون إليه وهم من الوهم، وأن حاضرهم خير لهم من دنيا يصيبونها عن طريق الخيانة والغدر ونصرة الباطل. وهكذا نرى أن الألوان الوعظية في نهج البلاغة تدور حول هذا القطب. وقد كان يتوجه بهذه المواعظ أيضًا إلى الأفراد العاديين الذين يخشى من أن يفتنهم رؤساؤهم بتحبيب دنيا معاوية إلى أنفسهم.
ولعل هذا يفسر كثرة تكرار الإمام لمواعظه. فقلما ترى خطبة من خطبه خالية عن الموعظة. إنه كان يقصد من وراء هذا التكرار أن يثبت توجيهاته في ضمائرهم، لتكتسب هذه التوجيهات قوة الطاقة الشعورية فيأمن زيغهم وانحرافهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مهطع: مسرع.
(2) الأثرة - بالتحريك - اختصاص النفس بالنفع، وتفضيلها على غيرها. والسحق – بضم السين - البعد.
(3) نهج البلاغة - باب الكتب - رقم النص: 70.
(4) مواسمه، جمع ميسم - بكسر الميم - وهو المكواة.
(5) نهج البلاغة، رقم النص: 106.
(6) حجال: جمع حجلة، وهي القبة تكون فيها المرأة، وموضع يزن بالثياب للعروس. وربات الحجال: النساء.
(7) السدم: الهم مع أسف أو غيظ.
(8) النغب: بمعنى جرع، وعلى وزنها، وهي جمع نغبة كجرعة، وبمعناها. والتهمام - بالفتح - الهم . وقوله (أنفاسًا) أي جرعة بعد جرعة.
(9) نهج البلاغة، رقم الخطبة: 27.
(10) أودكم: إعوجاجكم.
(11) نهج البلاغة، رقم النص: 67.
النّصير، ونعم النّصير، وخير النّاصرين في القرآن الكريم
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تحديد دلالة آية بيعة الرضوان تحت الشجرة (2)
الشيخ محمد صنقور
إصلاحات الإمام علي (ع) وردود الفعل منها (3)
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
ميتافيزيقا العلم الذكيّ (2)
محمود حيدر
معنى (برم) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
ادرس خطتك قبل الانطلاق
عبدالعزيز آل زايد
من هو المنتظِر الواقعي للإمام؟
السيد عباس نور الدين
لماذا ينطفئ الدماغ عندما تشعر بالإرهاق؟
عدنان الحاجي
العلم المقصود للعمل
الفيض الكاشاني
وجه رب الكون
السيد جعفر مرتضى
واشٍ في صورة حفيد
حبيب المعاتيق
السيدة الزهراء: حزن بامتداد النّبوّات
حسين حسن آل جامع
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
النّصير، ونعم النّصير، وخير النّاصرين في القرآن الكريم
تحديد دلالة آية بيعة الرضوان تحت الشجرة (2)
إصلاحات الإمام علي (ع) وردود الفعل منها (3)
ميتافيزيقا العلم الذكيّ (2)
بغض المؤمن حرام
(المعجم الموضوعي) للمحقّق الشيخ علي الكوراني
الكاتب يوسف الحسن: كيف نجعل الأدب أكثر جذبًا للقراءة؟
ميتافيزيقا العلم الذكيّ (1)
معنى (برم) في القرآن الكريم
تحديد دلالة آية بيعة الرضوان تحت الشجرة (1)