علمٌ وفكر

المشيئة الإلهية والقضاء والقدر (2)


هل القضاء والقدر قابلان للتّغيير؟1
إذا كان المقصود من التغيير والتبديل في القضاء والقدر غير الحتميين من الجانب الإلهيّ هو أنّ العلم والإرادة الإلهيّة توجب شيئًا، ثمّ يقوم عاملٌ آخر مستقل لم ينشأ من القضاء والقدر بإيجاده بالشكل المخالف للمشيئة والإرادة والعلم الإلهيّ، أو يقوم ذلك العامل المستقلّ الخارجيّ بتبديل العلم والمشيئة الإلهيّة، فإنّ هذا محالٌ.
وكذلك من زاوية العلّية العامّة إذا كان المقصود أنّ العلّية العامّة توجب شيئًا ثمّ توجد عامل في قبال هذه العلّيّة يمنعها من التّأثير فهذا محال أيضًا.
ذلك أنّ كلّ العوامل في الوجود تنشأ من علم الله وإرادته، وأنّ كلّ عامل يبدو في العالم ما هو إلاّ مظهر لعلم الله وإرادته، وآلة لتنفيذ قضائه وقدره.
وكذلك فإنّ كلّ عامل نأخذه بعين الاعتبار هو محكومٌ بقانون العلّيّة ومظهر من مظاهره، ولا معنى لتصوّر قيام عاملٍ ليس مظهرًا لتجلّي الإرادة الإلهيّة وآلة لتنفيذ قضائها وقدرها، أو تصوّر عامل خارج عن قانون العلّيّة ومقابل في التّأثير له.
فالتّغيير والتّبديل في المصير بمعنى قيام عامل في قبال القضاء والقدر أو في قانون العلّية، أمرٌ محال.
أمّا تغيير المصير بمعنى أن يكون سبب التغيير هو بنفسه مظاهر القضاء والقدر وحلقة من حلقات العلّيّة، أي تغيير المصير وتبديل القضاء والقدر بحكم القضاء والقدر، فرغم أنّه أمرٌ يبدو غريبًا شكلًا إلاّ أنّه حقيقة واقعة.
إنّ لله علماً يقبل التغيير، وإنّ حكم الله قابلٌ للنقض بمعنى أنّ لله أحكامًا قابلة للنّقض، وإنّ الدّاني يمكنه أن يؤثّر في العالي، وإنّ النّظام السّفلي وخصوصًا الإرادة والعمل الإنسانيّ بل الإرادة الإنسانيّة لا غير يمكنها أن تهزّ العالم العلويّ وتسبّب تغييرات فيه، ويمثّل هذا أسمى سلطة للإنسان على مصيره. أنا أعترف بأنّ ذلك أمرٌ يبعث على العجب، ولكنّه حقيقة، وهذه المسألة الرائعة الساميّة هي مسألة (البداء) التي تحدّث عنها القرآن الكريم لأوّل مرّة في تاريخ المعرفة الإنسانيّة فقال: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾2.


مثال المرض3
لعلّةٍ خاصّة يمرض شخص ويحدث الألم، وبعلّة الدّواء تنتفي تلك العلّة فيتغيّر المصير. ولو أعطى طبيبان نسختين إحداهما مضرّة والأخرى نافعة، ففي انتظار المريض حالتان مختلفتان وبيده اختيار إحداهما، وهذا الاختيار مرتبطٌ أيضًا بسلسلة من العلل بشكلٍ لا يسلب الإنسان اختياره. بمعنى أنّه رغم حصول انتخاب إحدى النّسختين يكون بالتّالي إمكان عدم انتخابها. وما يُقال من الإمكان الاستعداديّ لانتخاب النّسخة الأخرى موجودٌ محفوظ. وعليه، فهناك أنواع متعدّدة من القضاء والقدر، وكلٌّ منها يمكن أن يحلّ محلّ الآخر، وحلول أحدها محلّ الآخر هو بحكم القضاء والقدر أيضًا. وعلى هذا فلو أنّ مريضًا شرب دواءً ونجا فذلك بموجب القضاء والقدر، وإن لم يشرب الدّواء وبقي متألمًا أو شرب دواءً مضرًّا فمات بذلك أيضًا من القضاء والقدر. وبالتالي فكلّ ما يفعله ويبتلى به هو نوع من القضاء والقدر، ولا يمكنه أن يكون خارجًا عن حوزة القضاء والقدر.
وسرّ الأمر أن القضاء ليس عاملاً مؤثراً إلى جانب العوامل الأخرى، بل هو المبدأ والمشكّل لكلّ العوامل الكونيّة، وكلّها مظاهر له ومندرجة تحت مبدأ العلّيّة العامّة، وإذا استحال أن يكون إلى جنب العوامل المؤثّرة، استحال أن يمنع من تأثير أيِّ منهما، وكيف يتصوّر ذلك في الوقت الذي هو منبع العامل نفسه الذي يريد هو أن يمنع من تأثيره.
فالجبر محالٌ بالمعنى الذي ينتهي إلى إجبار الإنسان بالقضاء والقدر، فإنّ إعطاء القضاء والقدر هذا التّأثير - مع أنّه مبدأ العوامل في الوجود وليس عاملًا في عرض سائر العوامل - أمرٌ ممتنع.


* دراسات عقائدية - الشهيد مرتضى مطهري، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- أنسنة الحياة في الإسلام، الإنسان والقضاء والقدر، ص 352 – 354.
2- سورة الرعد، الآية 39.
3- أنسنة الحياة في الإسلام، الإنسان والقضاء والقدر، ص. 355- 357.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد