علمٌ وفكر

العلم والروح (2)

 

الشهيد مرتضى مطهري .. 

3- برهان ظهور الإنسان
قد تفسّر نظريّة العنصرين- المادّة والطاقة- بالقوانين الحاكمة عليهما وضعَ المادّة والطاقة بعد وجودهما، لكنها تقف عاجزة عن تفسير أصل ظهور الإنسان والحياة على صفحة الوجود، بل أصل وجود هذا الكون.
وتوضيحه: إنّ تفسير ظهور الحياة والإنسان يتوقّف على الحديث عن طفرة، أي عن حلقة فارغة ومبهمة، هي التي تولّت هذا الوجود. وهذه الطفرة إمّا أن تكون معلولة للصدفة أو معلولة لأمر موجود آخر.
أمّا أن تكون معلولة للصدفة فذلك غير ممكن، إذ الصدفة قائمة على مبدأ ظهور الأشياء من خلال التغييرات التدريجيّة، بناءً على أنّ تكرار الحوادث ملايين المرات يُظهر بالصدفة شيئاً نافعاً يبقى ويتحوّل إلى إرث للجيل الذي يليه، وهذا- التغيير التدريجيّ- لا يمكن أن يصحّ في الكائنات الحيّة التي تتمتّع بخصوصيّات عجيبة، ولدقتها وتعقيدها وتزامن حاجة كلّ جزء منها إلى أجزائه الأخرى في آن واحد لا بدّ أنّها وُجِدت دفعة واحدة، كالجهاز البصريّ، لا يمكن أن يكون وجودها تدريجياً بحيث يبقى النافع من الأجزاء تدريجيّاً، ولا بدّ أن توجد دفعة واحدة.
إذاً، إنّ مثل هذه الأجهزة وهذه الخصوصيّات لا تتسق مع حسابات التصادف الماديّ، وبالتالي فالطفرة في ظهور الإنسان بتجهيزاته لا يمكن أن تكون معلولة للصدفة بل ذلك يحكي عن وجود قوة أو عنصر ثالث هو الذي أحدث هذه الطفرة.


4- برهان التكيّف مع البيئة
يتميّز وجود الكائنات الحيّة بخاصيّة مذهلة، وهي تكيّف الكائن الحيّ مع شروط البيئة، بحيث تتطابق شروطه الحياتيّة والوجوديّة مع الشروط الخارجية، وذلك إمّا بأن يكيّف ذاته معها، وإمّا بأن يكيّف البيئة والمحيط مع ما يناسبه.
هكذا تبرز في أجهزة الكائنات الحيّة الداخليّة تغييرات تتناسب مع المحيط الجديد، كلما تغيّرت الأوضاع عليها، فتلبّي بذلك الاحتياجات المستجدّة للحياة في البيئة الجديدة.
فالإنسان- مثلاً- عندما يعيش في بيئة تحتاج إلى نسبة أكبر من الكريات البيضاء، فسرعان ما ترى طبيعته تتبدّل لتوجد تعادلاً وتوازناً، ليعيش مع متطلبات البيئة الجديدة وضروراتها، وهذه الأمور قد عدّت الآن من الثوابت تقريباً. والسؤال الذي يطرح نفسه هو:
ما هو العامل المؤثّر في هذه التغييرات؟
قد ثبت أن هذا التغيير في أجهزة الكائن الحيّ ليس بتأثير العوامل الخارجيّة، ولذلك لا نرى له أثراً في الجمادات، وإنّما المسبّب له قوّة الحياة الموجودة في الكائنات الحيّة، وهي قوة هادفة وموجّهة لهذا الجسد تبادر إلى تغيير وضع البدن كلما دعت الحاجة إلى ذلك، طبعاً ضمن حدود قدرتها.


5- برهان قابلية الإنسان العلمية
هناك نظريّتان في كيفيّة تلقّي الإنسان للمعلومات:
1- الدماغ ظرف للمعلومات: وهي التي كانت سائدة سابقاً، تبتنى على أنّ خلايا الدماغ هي ظرف للمعلومات التي يحصّلها الإنسان، فمع كلّ معلومة يكتسبها ويحفظها- سواء أكانت شِعراً أم قانوناً علميّاً أم غير ذلك- تنتقش صورة مصغّرة لها في نقطة معيّنة من دماغنا، كذا في المعلومة الثانية، وهكذا... 
فكل معلومة تأخذ مكاناً معيّناً في نقطة من دماغنا، ومعنى ذلك أنّه إذا استوفى الإنسان نقاط الدماغ جميعاً فلن يكون هناك مكان لمعلومات جديدة، ولا يملك الإنسان بعدها أيّ استعداد للتعلّم، حيث يصير الدماغ تماماً كالصحيفة البيضاء التي امتلأت كتابة في جميع جوانبها وحواشيها.
وفي النتيجة تكون قابلية الإنسان بناءً على هذه النظرية محدودة بمحدوديّة حجم دماغه.
2- الدماغ آلة ارتباط: بعد رفض العلم الحديث للنظرية السابقة، قامت النظرية الثانية على اعتبار الدماغ آلة ارتباط بالظرف الواقعيّ للمعلومات. والظرف الواقعيّ هو تلك الحالة التي نحسّ أنّها في داخلنا حضوريّاً، وهي حالة روحيّة مجرّدة غير ماديّة، فلا حدود لها، وبالتالي فإنّها تقبل المعلومات إلى ما لا نهاية، ولا معنى لامتلاء الدماغ بالمعلومات.
نعم، قد يتعب الدماغ على أثر الكبر والضعف، فتضعف قابلية الإنسان على تلقِّي المعلومات، وذلك لتباطؤ أداة الإرتباط وليس لامتلاء الظرف الواقعيّ، ولذا فلو أمكننا أن نأخذ المعلومات عن طريق الإلهام والإشراق، من دون أن نستخدم دماغنا وأعصابنا، لحصلنا على العلم لا إلى نهاية.
وممّا يساعد على هذه النظريّة- في تلقّي المعلومات- كلام للإمام عليه السلام في نهج البلاغة: (كلّ وعاء يضيق بما جعل فيه (حيث يتدنّى استيعابه بمقدار ما وُضع فيه)، إلا وعاء العلم فإنّه يتسع به).
في النتيجة، إنّ عدم محدوديّة تلقّي الإنسان للمعلومات تثبت أنّ فيه وعاءً وظرفاً غير محدود في قابليّته، ولا يكون فيه سعة مكانية معيّنة ومحدودة معدّة لنقش العلم، بل هو ظرف مجرّد غير ماديّ يزداد اتساعاً بقدر ما يصبّ فيه من معلومات، وليس ذلك سوى روحه التي بين جنبيه.


6- برهان لا محدودية أماني الإنسان

من المسائل غير المتناهية في الإنسان مسألة أمانيه وآماله، فلكل إنسان أمنيات تحدّثه بها نفسه، وكلّما أُعطيها ترى قلبه يتمنى أموراً جديدة، فوعاء أماني الإنسان وقابليّته على التمنّي غير محدودة.
وإذا ما رأينا إنساناً محدود الأماني فذلك يعود إلى الأوضاع المحيطة به التي تُملي عليه هذه المحدودية، حيث يتمنّى ما يرى أنّ له نيله ويمكن تحقيقه، فإذا ما حصل عليه تبرز لديه أمانيُّ وآمال جديدة.


حقيقة الأماني اللامتناهية:
وواقع الأمر أنّ الإنسان في أمنياته اللامحدودة إنما ينشد الكمال المطلق، فهو ينفر من المحدوديّة والنقص والعدم، يتمنّى شيئاً ويسعى وراءه ظنّاً منه أنّه مبتغاه وضالّته الواقعيّة، وإذا ما حصل عليه وجده أقلّ من المطلوب فيسعى إلى شيء آخر أكمل من الأول.
إذاً، ليست أماني الإنسان اللامحدودة أمانيَّ مشتّتة بلا هدف، كما أنّها ليست تمني ما يفقده فقط، كما في بعض الكتابات المعاصرة، والصحيح أنّ الإنسان إنّما يسعى في كل أمانيه إلى الكمال المطلق، ولذا لو بلغ كماله هذا لهدأ واستراح، ولشعر براحة القلب والاطمئنان ولم ينشد التحوّل عنه أبداً، فالإنسان في أعماق شعوره الباطني لا يبغي شيئاً غير الله الذي هو الكمال المطلق.
وبشأن هذه الفكرة يقول القرآن: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، وفي آية أخرى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً﴾، وكذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيه﴾.


نتيجة البرهان:
وفي الخلاصة، إنّ في الإنسان قوّة تدفعه للسعي وراء حقيقة لا أثر فيها للنقص والمحدودية بل هي الكمال المطلق. وهذه القوة الدافعة إلى اللامحدود لا يمكن أن تكون محدودة في ذاتها، ولذا ليست هي المادّة، بل أمر آخر ليس سوى الروح المجرّدة عن المادّة المحدودة.
ويبقى أنّ هناك أموراً أخرى تُعتبر من خصائص الإنسان ولا يمكن تفسيرها من وجهة النظر الماديّة، كالأحلام والتنبّؤات، والتخاطر والكرامات والمعاجز، وأمور استثنائيّة أخرى في الإنسان لا يمكن إنكارها، ويستدعي القول بها وجود بعد ثالث في الإنسان غير المادّة والطاقة، ويستدعي أيضاً أن تكون القوى التي في الإنسان تغاير تلك التي في الكائنات الحية الأخرى.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد