د. حسن أحمد جواد اللواتي ..
المبدأ الإنساني في الفيزياء الفلكية وعلم الكونيات هو "الاعتبار الفلسفي بأن مشاهداتنا ورصدنا الفيزيائي للكون لا بد أن يكون متطابقًا مع وجود حياة عاقلة وواعية في الكون تقوم بتلك المشاهدات والرصد(1)".
العبارة الماضية على بساطة كلماتها فإنها تتطلب شرحًا ومقدمات إضافية للتيقن من أننا استوعبنا المقصود منها، فالسياق الذي نشأ فيه صياغة المبدأ الإنساني كان سياق البحث في القوانين الفيزيائية والثوابت الرقمية الفيزيائية التي تميز الكون من قبيل مقدار القوة الكهرومغناطيسية بين الجسيمات الأولية بالمادة والقوى النووية الضعيفة والقوية وعدد الأبعاد المكانية الكبيرة وكثافة المادة بالكون وما إلى ذلك (للمزيد عن هذا الموضوع يرجى الرجوع إلى مقالة (برهان النظم بثوبه الجديد)، وقد كان من نتائج هذا البحث أننا وجدنا أن تلك الكميات الفيزيائية الأساسية تقع في نطاق متوافق جدًّا مع نشوء الحياة العاقلة بالكون، المذهل أن نشوء الحياة ليس ممكنًا في الكون في حالة اختلاف تلك الكميات والقيم الفيزيائية بنسب بسيطة جدًّا عما هي عليه، ولكي تتصور ضخامة الموضوع فإنه ينبغي عليك أن تعلم أن هناك عددًا هائلًا جدًّا من الاختيارات الممكنة للحالات التي يمكن أن يكون عليها الكون تقدر بالرقم واحد وعلى يمينه 500 صفر (10 مرفوعة للأس 500) وهو رقم لا يمكنك حتى نطقه أو تصور ضخامته، ومع ذلك فإن من ضمن كل تلك الحالات الممكنة الكثيرة التي كان من الممكن أن يكون فيها الكون فإننا نجد أن تلك الكميات بالكون في حالة واحدة متوافقة مع نشوء الحياة العاقلة فيه، ولو كان الكون في أي من الحالات الأخرى الممكنة لما كان متوافقًا مع وجودك الآن لتقرأ هذه السطور، يعبر ستيفن هوكنج عن هذا الأمر "إن الحقيقة الملفتة للنظر هي أن قيم هذه الأرقام تبدو وكأنها قد تم ضبطها بدقة شديدة لجعل نشوء الحياة ممكنا(2)" وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر يؤدي بالمرء أن يخرج بنتيجة مفادها أن تلك الأرقام قد تم تحديدها بتلك الدقة المتناهية وأن حالة الكون الأساسية الحالية تم اختيارها بالتحديد من ضمن تلك المجموعة الهائلة من الحالات الممكنة لكي تنتج الحياة العاقلة فيه، وهذا بدوره يؤدي إلى استنتاجين آخرين على الأقل أولهما أن هناك جهة ذكية وعاقلة وقادرة على ضبط الكون وخلقه بالطريقة المتناسبة مع نشوء الحياة العاقلة فيه، وثانيهما هي أن وجودنا هنا في الكون أمر مقصود ومخطط له منذ لحظة تحديد تلك الثوابت الفيزيائية في بنية الكون الأساسية.
وكما هو متوقع جدا فإن هذه النتيجة وبالذات القسم الأول منها لم يكن مقبولًا لدى فئة من الباحثين بالعلوم الطبيعية ممن لا يميل إلى فكرة وجود إله بالكون أو ممن يروج بشكل نشط للإلحاد، وبشكل عام كان علماء الطبيعة منذ زمن نيوتن يملكون شعورا بأنهم استطاعوا في نهاية المطاف أن يفكوا الخطوط العامة لشفرات الطبيعة الغامضة عبر المنهج العلمي القائم على اختبار ومشاهدة ورصد وتجربة الأمور الخاضعة لنطاق الحس وصياغة تعابير رياضية دقيقة لوصف الطبيعة، ومع أن ذلك الإحساس قد تعرض لهزة من قبل ورنر هايزنبرغ الذي أسس لمبدأ الشك أو اللايقين كأساس للفيزياء الكمية إلا أن تلك الإضافة ظلت في نطاق الطبيعة والمحسوس ولم تتطلب من العلماء غير تغيير بعض المفاهيم في التعامل مع الطبيعة، ولكن أن تخرج لهم مشاهداتهم للكون بفكرة أن هناك جهة فوق الطبيعة وغير خاضعة لقوانين الطبيعة تقوم بخلق الطبيعة والكون وكل الأشياء وتضبط بنية الكون الأساسية بشكل دقيق جدًّا لتنتج الحياة العاقلة بعد 14 مليار سنة من نشوء الكون فإن ذلك كان أمرًا أكبر من أن يستطيعوا قبوله وهضمه، ولذا نشأت فكرة الأكوان المتعددة والمبدأ الإنساني كمحاولة للالتفاف حول فكرة الضبط الدقيق للكون، مرة أخرى نقتبس من هوكنج كلامه بهذا الصدد "قد يستعمل المرء هذا كدليل على وجود غاية إلهية في الخلق وكاختيار [إلهي] لقوانين العلم، أو [قد يفهم منها] دعمًا للمبدأ الإنساني القوي(3)." هناك عدة نسخ أو أصناف من المبدأ الإنساني ولكل منها مناصرون ومعارضون مما يوضح لنا جدلية الأمر، سنستعرض أشهر ما نوقش في هذا الأمر.
المبدأ الإنساني الضعيف (كارتر)
أول من طرح فكرة المبدأ الإنساني كان عالم الفيزياء النظرية الأسترالي براندون كارتر(4) في 1973 وعبر عن المبدأ الإنساني الضعيف على أن "موقعنا [بالزمان والمكان] بالكون متميز بالضرورة ليكون متوافقًا مع وجودنا كمراقبين"(1)1، وكما تلاحظ فإن هذه العبارة لا تعطينا من المعلومات أكثر مما نعلمه من حديثنا السابق عن الضبط الدقيق لثوابت الكون الفيزيائية، حيث لا نعلم من خلال هذا التعريف أي شيء عن سبب ذلك الضبط الدقيق ولا يخبرنا التعريف أيضًا عن تلك الضرورة في كون موقعنا مميزًا في الكون، فالضرورة قد تكون ضرورة ثبوتية (Imperative Necessity) وقد تكون ضرورة إثباتية (Deductive Necessity)، الضرورة الإثباتية في هذه الحالة هي أن نقول أنه لو لم تكن ثوابت الكون الفيزيائية كما هي عليه لما كنا هنا الآن نبحث في أمر تلك الثوابت وبالتالي فإنه وجود الكون بالشكل المحدد الذي هو عليه هو من قبيل التحيز في اختيار عينة الاستقراء (Selection Bias) أي من قبيل أن تذهب إلى منطقة معظم سكانها أغنياء ثم لا تجد فيها الكثير من الفقراء وبالتالي سيكون ذلك الاستقراء غير صالح للمعرفة لأن اختيار العينة فيه كان منحازًا للأغنياء، وكمثال آخر لإيضاح هذه الضرورة افترض أن فرقة من عشرة عسكريين تريد إطلاق النار على شخص محكوم عليه بالإعدام وعند إطلاق النار يجد هذا الشخص نفسه أنه لا يزال على قيد الحياة ويستنتج [بالضرورة الإثباتية] أنه لا بد أن يكون العسكريون العشرة قد أخطأوا في تصويبهم للنار له لأنهم لو كانوا قد أصابوه لكان ميتًا الآن وحيث أنه ليس بميت فهم قد أخطأوه بالضرورة، ولكن هذا التفسير بالضرورة الإثباتية لا يجيبنا إطلاقًا عن السبب في إخطائهم بإصابته، أما الضرورة الثبوتية فهي بمعرفتنا (مثلًا وفي نفس المثال) أن أحدهم قد قام بالتلاعب ببندقيات العسكريين العشرة بهدف إنقاذ المحكوم عليه من الموت، وفي موضوعنا فإن الضرورة التي نبحث عنها هي الضرورة الثبوتية والتي تتمثل في الفرض بأن الثوابت الكونية إنما تم ضبطها بالشكل الذي نلاحظه بهدف إنتاج كائنات تستطيع إدراك ذلك الضبط الدقيق في مرحلة ما من مراحل تطور الكون.
ـــــــــــــــــــــ
Anthropic principle. (n.d.). Retrieved May 5, 2015, from http://en.wikipedia.org/wiki/Anthropic_principle
2 Hawking, S. (1996). The illustrated A brief history of time (Updated and expanded ed., p. 160). New York: Bantam Books.
3 Ibid. P.160.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع