الشيخ عبدالهادي الفضلي
والحق أن الفارق بين معاملة البيع ومعاملة الربا يتمثل بالتالي :
1 ـ حركة المال
ذلك أن حركة المال في معاملة البيع هي في صالح الجميع البائع والمشتري والمجتمع . وبعكسها في معاملة الربا فإنها في صالح المرابي فقط .
2 ـ اصطناع المعروف
ففي القرض الحسن، وكذلك في الصدقة اصطناع للمعروف، وأخذ بنظام البر والإحسان الذي هو الأساس في بقاء توزيع الثروة بين أبناء المجتمع توزيعاً عادلاً .
بينما في الربا قضاء على اصطناع المعروف، ومن ثُمَّ الانحراف بحركة المال لصالح المرابي على حساب حرمان المجتمع منه .
وبه صرحت جملة من الأحاديث منها :
ـ ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام : « إنما حرّم الله ـ عز و جل ـ الربا لئلا يذهب المعروف » .
ـ ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام : « إنما حرّم الله ـ عز وجل ـ الربا لكيلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف » .
ـ وعنه أيضاً : « إنما حرّم الله الربا لكيلا يمتنعوا من صنائع المعروف » .
3 ـ العدل والجور في توزيع الثروة
وهذا ما لمسناه فيما يتركه الربا من أثر واضح في تكدس الثروات لدى المرابين مما ينتج عنه أبشع أنواع الطبقية الاقتصادية، ورأينا هذا في الإقطاع، ونلمسه الآن واضحاً في الرأسمالية، والدعوة إلى العولمة التي ستكدس الثروة داخل إطار مؤسسات اقتصادية كبرى من شركات ومصارف لا يمثل أصحابها اكثر من خمس سكان العالم في مقابل إفقار وفقر أربعة أخماس العالم .
وأيضاً نفهم من الآية الأولى: إعلان القرآن الكريم الإعفاء عما سلف ومضى من الأعمال الربوية على أن لا يعاد إليها .
ـ وفي الآية الثانية يؤكد القرآن الكريم على نظام البر والإحسان العامل العادل في توزيع الثروة توزيعاً متوازناً، ويشجب ـ وبقوة ـ نظام الربا .
ـ وأما في الآية الثالثة فقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام: « قال: إن الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهلية وقد بقي له بقايا على ثقيف وأراد خالد بن الوليد المطالبة بعد أن أسلم فنزلت : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد وضع ما مضى من الربا وحرّم عليهم ما بقي .
ـ ثم عقب الآية الثالثة بلغة مشددة في الآية الرابعة تدعو إلى التوبة من فعل الربا، والاكتفاء بأن يأخذ المرابون رؤوس أموالهم لا يَظلمون ولا يُظلمون .
ـ وفي تفسير الآية الخامسة يقول الزمخشري في ( الكشاف 1 / 463 ) : « نهي عن الربا مع توبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه، كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل فاستغرق بالشيء الطفيف مال المديون » .
وفي ( الجواهر في تفسير القرآن 2 / 155 ) : « لما فرغ من الكلام على الجهاد والمحافظة على الوطن ـ وهي هنا المدينة ـ وعلى الصبر والثبات في الحرب، وأن النصر تابع لهما، وأن كل تأييد من الله لن يكون على مقتضاهما، وما عدا ذلك فإنما هو غرور، شرع بذكر أصول ذلك وأساس بنيانه من المحافظة على الاقتصاد في البلاد وحفظ الأموال حتى يتيسر للناس استثمار أموالهم، ومن الإنفاق في الأمور العامة، وللفقراء والمساكين، ومن تهذيب النفوس بالصبر وكظم الغيظ والعفو قال : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ... ﴾ : لا تزيدوا زيادات متكررة، فإنهم كانوا في الجاهلية عند حلول الدين يزيدون المال ويؤخرون الأجل، فإذا كان لإنسان دين وجاء أجله، ولم يكن للمديون ما يؤدي، قال له صاحب المال: زدني في المال وأنا أزيدك في الأجل، ويفعلون ذلك مراراً فيصير الدين أضعافاً مضاعفة .
وإنما كرر هذه الآية هنا ـ وإن كان أصل الربا حراماً وإن لم يضاعف هذه المضاعفة ـ لأن هذا النهي عن أمر واقع كانوا يفعلونه » .
وكما ألمحت، إن هذه الآية الكريمة جاءت تندد بواقع مرير كان قائماً أثناء نزولها، وقرأنا التفسير حيث يوضح هذا وينص عليه .
ولكن ـ مع هذا ـ حاول بعض المعاصرين أن يعتبر الآية الشريفة جاءت لتحرم الربا الفاحش الذي سبق أن أشرنا إلى تحريمه من قبل بعض التشريعات البشرية القديمة .
وهي ـ فيما أرى ـ محاولة فاشلة لما ذكرت من أنها جاءت تشجب وتبطل واقعاً مفسداً كان قائماً آنذاك، ولأنها تتعاضد مع الآيات الأخرى في تحريم الربا حرمة مغلظة توعد عليها الله تعالى إدخال النار من يفعلها، ومن هنا عُدَّ فعل الربا من الكبائر الكبرى .
وقد ألمح إلى هذا سيد قطب في تفسيره ( في ظلال القرآن 4 / 473 ) ورَدَّ عليه، قال: « ولقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الظلال فلا نكرر الحديث عنه هنا، ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة، فإن قوماً يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص، ويتداروا به، ليقولوا: إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة، أما الأربعة في المائة، والخمسة في المائة، والسبعة، والتسعة فليست أضعافاً مضاعفة، وليست داخلة في نطاق التحريم .
ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع، وليست شرطاً يتعلق به الحكم، والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا بلا تحديد ولا تقييد : ﴿ ... وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ... ﴾ أياً كان .
فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف، لنقول: إنه في الحقيقة ليس وصفاً تاريخياً فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة، والتي قصد إليها النهي هنا بالذات، إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت أياً كان سعر الفائدة .
إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة، ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة، فهي عمليات متكررة من ناحية، ومركبة من ناحية أخرى، فهي تنشئ مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافاً مضاعفة بلا جدال .
إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائماً هذا الوصف، فليس هو مقصوراً على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب، إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان » .
إن ما عبّر عنه القرآن الكريم بالأضعاف المضاعفة هو ما يصطلح عليه الآن في علم الاقتصاد الحديث بـ (جدولة الدين ) وتعني « مد فترات استحقاقه وإعادة توزيع أقساطه حسب جدول زمني جديد » .
وجدولة الديون هي أخطر عملية من عمليات الربا، لما لها من أفاعيل ضارة ضرراً بالغاً في توازن توزيع الثروة بين المواطنين .
ـ وفي الآية السادسة يخبرنا القرآن الكريم عن أن الربا كان سبباً في حرمان اليهود من طيبات كانت قد أحلت لهم، وهذا يعرب ـ وبوضوح ـ عن مدى ما يتركه الربا من أضرار اقتصادية واجتماعية وأخلاقية .
ـ وفي الآية الأخيرة يقارن القرآن الكريم بين الربا والزكاة حيث لا يربو الربا عند الله، في حين تنمو الزكاة وتربو عنده، وذلك لأن الربا ظلم للناس، والزكاة بر بهم وإحسان اليهم .
ذهب غير واحد من العلماء المعاصرين إلى القول بتدرج تحريم الربا، منهم: الدكتور محمد عبد الله دراز في بحث له بعنوان ( الربا في نظر القانون الإسلامي ) ، والدكتور الزحيلي في كتابه ( الفقه الإسلامي و أدلته 5 / 3742 ـ 3743 ) إلى أن الربا حرم في القرآن الكريم بشكل تدريجي، قال: « التدريج في التشريع : هذا من خصائص وأسس بيان الأحكام الشرعية، فلم تحرم الخمر ـ مثلاً ـ دفعة واحدة كما هو معروف، وإنما مر التحريم بمراحل أربع، آخرها آيتا المائدة ( 90ـ 91 ) : ﴿... إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... ﴾ .
وعقوبة الزنا مرت بمرحلتين: الأولى: الحبس للنساء والإيذاء للرجال في آيتي النساء ( 15و 16 ) ، والثانية: حد الجلد في سورة النور : ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ... ﴾.
وكذلك تحريم الربا مر بمراحل أربع
أولها: تقبيح فعل اليهود الذين يأكلون الربا، والتشنيع عليهم، في قوله تعالى ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ... ﴾، وقوله سبحانه ﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ .
ثانيها : التفرقة بين الربا و الزكاة في قوله تعالى ﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾
ثالثها: التنديد بفعل العرب المشركين في الجاهلية ونهي المؤمنين عن محاكاة فعلهم بقوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ... ﴾ ـ والنهي ليس مقصوراً على حالة المضاعفة، وإنما هذا قيد لبيان الواقع، وتقبيح الوضع القائم الشائع بين العرب حينما يقرض أحدهم لآخر قرضاً لمدة، ثم يحل أجل القرض، ويعجز المدين المقترض عن وفاء دينه، فيقول له المقرض الدائن: (إما أن تقضي أو تربي) فيزيد له في الأجل مقابل الزيادة في الربا، وهذا عين عمل المصارف الحالية تكون الفائدة 7% أو 9% مثلاً، فيعجز المدين عن سداد الدين، فتضاعف عليه الفائدة في العام الثاني والثالث وهكذا حتى تكاد الفائدة في النهاية تعادل أصل رأس المال، وهذه هي الفائدة المركبة، والتي لا يتنبه لها القائلون بفوائد البنوك المقللون لمقدارها والمبيحون لها، بل إن هذه الفوائد أسوأ من ربا الجاهلية .
رابعها: تحريم الربا تحريماً قطعياً، ووصف المرابين بالتعرض لحرب الله ورسوله، في قوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ ثم قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ .
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان