علمٌ وفكر

كيف تعيد أدمغتنا بناء العالم المرئي


المترجم: أبو طه / عدنان أحمد الحاجي

نظرًا لأننا نرى العالم من خلال شبكتين مسطحتين صغيرتين واقعتين وراء أعيننا، يبدو ملحوظًا أن كل ما نراه هو عالم مرئي ثلاثي الأبعاد سلس.
الشبكية تستجيب لأطوال موجية ضوئية مختلفة من حولنا. ولكن هذا مجرد الجزء الأول من هذه العملية. أدمغتنا يجب أن تقوم بالكثير من العمل بكل تلك البيانات الخام التي تدخل- ووضعها مع بعضها واختيار ما يجب التركيز عليه وماذا تتجاهله. إنه الدماغ الذي يبني عالمنا المرئي.
وقد أحرز باحثو علم الأعصاب وعلماء الإدراك في الآونة الأخيرة تقدما كبيرًا في التحقيق في كيف تجري هذه العملية. ما أقوم به من بحث يركز على كيف يبني الدماغ العالم المرئي من خلال اختيار المعلومات البصرية  ليوليها الاهتمام ويستخدم الذاكرة البصرية للإبقاء عليها لفترات قصيرة. هناك الكثير من المدخلات الحسية غير البسيطة التي تدخل في بناء تصورنا للعالم المرئي الذي نعيش فيه.

العيون كأجهزة استشعار بصرية
الشبكية هي رقيقة من الخلايا واقعة خلف كل عين من عينينا. بعض هذه الخلايا، تدعى المستقبلات الضوئية، هي حساسة للضوء. هناك نوعان رئيسيان: قضبان حساسة للاختلافات بين الضوء والظلام ومخاريط حساسة للون.
 هذه المستقبلات الضوئية مرصوصة معًا بشكل كثيف في منطقة صغيرة في وسط الشبكية تسمى النقرة. وهي تقابل مركز رؤيتنا، حيث حدة الرؤية في أعلى مستوياتها. الرؤية التفصيلية تتناقص تدريجيًّا كلما بعدت المسافة عن مركز المجال البصري.
كلما نظرنا إلى ما حولنا، حركنا أعيننا. وهذه تمكننا من توجيه النقرة إلى ما نهتم به أكثر في محيطنا . وتسمى حركات العين الطوعية هذه طرفات ويقوم بها الشخص حوالي ثلاث مرات في الثانية.

عيون + دماغ = رؤية
وبالنظر إلى أن العيون هي في حركة مستمرة، كيف يمكن لصورة  ما حولنا تبدو مستقرة في أذهاننا؟ في التحقيق في هذا التناقض الواضح، اكتشف علماء الأعصاب أن الأشياء التي تدخل العين يتم تثبيطها خلال الطرفات، لذلك لا نسجل الحركة السريعة والصورة غير الواضحة التي لولا ذلك يمكن أن تحدث.
علاوة على ذلك، الدماغ يصحح حركات العينين باستخدام معلومات من عضلات العين التي تتحكم في حركتها. لأن الدماغ يلغي المعلومات التي تأتي حين تتحرك العينان، يكون عالمنا المرئي متصورًا خلال تركيز النظر (fixations)، لفترات قصيرة (حوالي ٢٠٠- ٣٠٠ ميلي ثانية) عندما تكون العيون ثابتة. أثناء القراءة على سبيل المثال، تكون عيوننا في حركة فقط في ١٠٪ -٢٠٪ من الوقت.
 عند كل تثبيت (تركيز) النظر، يجب علينا اختيار المعلومات البصرية الأكثر ملاءمة لتنفيذ المهمة التي تحت اليد. لدينا القدرة على التنبه إلى أو التركيز على مصدر أو عدة مصادر للمعلومات وتجاهل ما تبقى، أو على الأقل الحد من أهميتها. الباحثون يطلقون على ذلك "الانتباه البصري visual attention". إذ يعتقدون أنه مهم جدًّا لمساعدتنا على ربط أو دمج الخصائص الأولية كاللون، والاتجاه لتشكيل التصور عن الأجسام  الكاملة في المحيط.
وبعبارة أخرى، النظرية تقول أن الانتباه البصري هو نافذتنا الصغيرة على العالم. إنه من ذلك التركيز المحدود - في كل من الحيّز والانتباه - أن أدمغتنا تدمج المعلومات البصرية في أجسام متسقة. على سبيل المثال، عندما تنظر إلى أحد شوارع المدينة المزدحمة، تجد هناك العديد من المصادر المحتملة للمعلومات البصرية لتركز عليها. ولكن باستخدام انتباهنا البصري سنختار فقط مجموعة فرعية صغيرة من هذه المعلومات - على سبيل المثال، سيارة الأجرة المقبلة باتجاهنا.

الذاكرة البصرية تساعد على بناء المشهد
إنها عمليات انتقائية كالانتباه البصري الذي يسمح للدماغ بمعالجة المعلومات المهمة وتجاهل ما ليس كذلك. ما هو مهم أو غير مهم لك ستحدده أهدافك الشخصية. على سبيل المثال، أظهرت إحدى الدراسات أن المراقبين لاحظوا تغير الجسم في إطار الواقع الافتراضي فقط لو جعل لذلك الجسم علاقة بالمهمة في وقت التغيير.
على سبيل المثال، لو قيل لجماعة افتراضيًّا بفرز طوب بحسب الحجم، فإنهم (أكثر احتمالاً)  يقومون بملاحظة  التغيرات في أبعاد الطوب "مما لو قيل لهم مجرد احملوا الطوب بالترتيب التي يظهر به".
لمعرفة ما هو مهم أو غير مهم لهذه المهمة التي في اليد، فإن الشخص يحتاج إلى وسيلة للاحتفاظ ببعض المعلومات على طول الوقت . هنا تأتي أهمية الذاكرة البصرية . تنقسم  عادة إلى أنواع قصيرة المدى وطويلة المدى. النوع القصير المدى من الذاكرة البصرية هو الأكثر أهمية في بناء واستقرار العالم المرئي اللحظي.

اعتاد العلماء على التفكير في أن الذاكرة البصرية القصيرة المدى تمثل العالم المرئي بالتفصيل، مجمعةً المعلومات من كل تركيز عين ثابت لبناء "صورة" ذهنية مفصلة عن المحيط ومع ذلك، فقد بينت المزيد من البحوث التي أجريت مؤخراً أن المراقبين عادة لا يلاحظون التغييرات الكبيرة نسبيًّا في البيئة البصرية عندما تقترن هذه التغييرات، مثلًا، بحركة العين، أو ببعض التعطيلات الآخرى. وتسمى هذه الظاهرة  "عدم الانتباه بسبب التغييرات  change blindness".
وفي ظاهرة ذات صلة  تسمى بالعمى الإدراكي (تعريف من خارج النص: هو نقص في الانتباه السايكلوجي غير مرتبط بأي عيوب أو فقر في البصر)، فالناس غالبًا ما تفوتهم أحداث واضحة في المحيط عندما يكونون منهمكين في مهمة غير ذات صلة. وعلى سبيل المثال عندما يقومون بحساب عدد تمريرات كرة السلة، لا ينتبهون إلى الشخص المتلبس على شكل غوريلا يتحرك في الملعب بين اللاعبين.
وقد أظهرت الأبحاث التي جرت على هذه الظواهر والآليات المرتبطة بها أن الناس يبنون نسخة أكثر تخطيطيًّا عن البيئة عبر تركيزات العين مما كان يعتقد سابقًا.
هذه النسخة  التخطيطية  للبيئة عادة ما تعرف بجوهر المشهد scene gist (تعريف من خارج المصدر: يتمكن الناس من إدراك معنى المشهد، أو "gist"، من خلال أول تركيز للعين عليه، على سبيل المثال، يمكنهم أن يدركوا أنه شاطئ، أو غرفة طعام أو شارع) . وتحتوي على معلومات مفاهيمية عن التصنيف الأساسي في المشهد - هل منظر المدينة طبيعي أو من صنع الإنسان؟
بدون حوسبة الدماغ المستمرة كمعالج  بصري، فإن المعلومات البصرية التي نتلقاها من خلال عيوننا تبقى مبعثرة بشكل فوضوي. الآليات العصبية التصحيحية مسؤولة عن حركات أعيننا. الذاكرة البصرية والانتباه يعملان معًا ليسمحا بالانتقال السلس للسائل من مصدر للمعلومات إلى أخر. وهذه العمليات جميعها تسمح للدماغ على وضع تصورنا لعالم مرئي مستقر ومحكم.

المصدر الرئيسي
https://theconversation.com/how-do-our-brains-reconstruct-the-visual-world-49276

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد