علمٌ وفكر

اليقين


السّيّد عليّ خان الشّيرازيّ

اليقين: فَعيل، يكونُ اسمَ مصدر، ويكونُ بمعنى فاعل، من يَقِنَ الأمر يَيْقَنُ يَقَنَاً - من باب تعب - أي ثبتَ فهو يقين، ويستعمَل أيضاً متعدّياً بنفسه، وبالباء، وبالهمزة والباء، فيُقال: يقنتُه، ويقنتُ به، وأيقنتُ به، وتيقّنتُه، واستيقنتُه، أي: علِمتُه علماً لا شكَّ فيه.
فاليقينُ لغةً: العلمُ الّذي لا شكَّ معه، واصطلاحاً قيل: هو العلمُ الحاصلُ من نظرٍ واستدلالٍ، ولهذا لا يُسمّى علمُ الله تعالى يقيناً.
وقيل: هو غايةُ الكمال في القوّة النّظريّة الّتي لا تحتملُ النّقيض، سواء حصلت بالبرهان، أو بالمجاهدات والرّياضات النّفسانيّة والهدايات الخاصّة بالأولياء، على حسب مراتبه.

تعريفُ المحقّق الطّوسيّ
وقال المحقّق الشّيخ نصير الدّين الطّوسيّ رضوان الله تعالى عليه في بعض رسائله:
«اليقين: اعتقادٌ جازمٌ مطابقٌ ثابتٌ لا يُمكن زوالُه، وهو في الحقيقة مؤلَّفٌ من عِلمَين: العلمُ بالمعلوم، والعلمُ بأنّ خلافَ ذلك محال، وله مراتب: علمُ اليقين، وعينُ اليقين، وحقُّ اليقين.
والقرآنُ الكريم ناطقٌ بذلك، قال تعالى: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ التّكاثر:5-7، وقال: ﴿وَتَصْلِيَةُ جحيمٍ * إنَّ هذا لَهُوَ حقُّ اليقين﴾ الواقعة:94-95، وهذه المراتب مرتَّبةٌ في الفضل والكمال. وهي مثل مراتب معرفة النّار:

1- فالعلمُ بالنّار مثلاً بتوسّط النّار والدّخان هو علم اليقين، وهو العلمُ الحاصلُ لأهل النّظر والاستدلال بالبراهين القاطعة.
2- والعلمُ بمعاينة جرم النّار المفيض للنّور هو عينُ اليقين، وهو العلمُ الحاصلُ بالكشف للخُلَّص من المؤمنين الّذين اطمأنّتْ قلوبُهم بالله، وتيقّنوا بمعاينة القلوب أنّ اللهَ نورُ السّماوات والأرض، كما وصف به نفسه.
3- والعلمُ بالنّار بالوقوع فيها والاحتراق بها ومعرفة كيفيّتها الّتي لا يفصح عنها العبارة، هو حقُّ اليقين، وهو العلمُ الحاصل بالاتّصال المعنويّ لأهل الشّهود والفناء في الله..».
وهذا المرتبة [الثّالثة] هي الدّرجة العليا والمنزلة الفضلى الّتي سألها الدّاعي [الإمام السّجّاد] عليه السّلام.

وقد عبّر بعضُهم عن هذه المراتب فقال: للعلم ثلاثُ مراتب:
أُولاها: علمُ اليقين، وهي مرتبةُ البرهان.
وثانيتها: عينُ اليقين، وهو أن يرى المعلومَ عياناً، فليس الخبرُ كَالعيان.
وثالثُتها: حقُّ اليقين، وهو أن يصيرَ العالِمُ والمعلومُ واحداً، ولعلَّه لا يعرف حقَّ هذا المرتبة إلّا مَن وصلَ إليها، كما أنّ طعم العسل لا يعرفُه إلَّا مَن ذاقه، ولعزّة هذه المرتبة وقلَّة الواصلين إليها لم يتعرّض لبيانها الأكثرون.
لو صدقَ يقينُكم..

قال الشّيخ بيان الحقّ، أبو القاسم محمود بن أبي الحسن النّيسابوريّ في كتاب (خلق الإنسان): «قالوا: إنّ اليقين يقينان:
أحدهما: ينفي الشّكّ، وهذا لا يغلبُ الشّهوة، وهو يقينُ التّوحيد.
والآخر: نورٌ مشرقٌ للصّدر، غالبٌ للشّهوات، مُبطِلٌ للاختيار، صارت لصاحبه أمورُ الدّنيا والآخرة وأحوالُ الملكوت معاينةً، وأَصبحَت لِأمرِه خاضعةً طائعةً، وعلى هذا جاء عن الله تعالى في الزّبور المُنزَلِ على داود عليه السّلام: (لو صَدَقَ يقينُكم ثمّ قُلتم للجَبل: انتقِل فَقَعْ في البحر، لَوَقع).
وذلك أنّ القلب إذا وصل إلى الله تعالى، وامتلأَ من عظَمته، وأشرقَ بِنُور جلالِه وهيبتِه، فبعد ذلك أينما وَقَع البصرُ دار الفكرُ حوالي ما امتلأَ به القلب، إذ وصلَ إلى الله وامتلأ من عظَمته من العمل الصّرف الصّافي الخالص، غير الممزوجِ بالشُّبُهات المكدَّرِ بالشّائبات، بمنزلة الشّمس إذا رُدّ قرنها، واستوى حاجبُها، وأشرق ضياؤها؛ فحيث ما سِرْتَ من بلاد الله فضَؤها معكَ يُريك الأشياءَ بألوانها وهيئاتها ومقاديرها وأشكالها، فكذلك شمسُ اليقين إذا أشرقتْ واستضاءتْ بنورها النّفسُ، أراه ذلك أمرَ الملكوت، وأحوالَ الدّنيا والآخرة، وبواطنَ الأشياء والأسرار الّتي في الغيوب، ممّا كَشَفها اللهُ تبارك وتعالى لأنبيائه، وأَطلَع عليها قلوبَ خيَرتِه وأصفيائه.

قلت [الشّيخ النّيسابوري]: وممّا يؤيّدُ هذا المعنى ما رواه ثقة الإسلام [الكلينيّ] في (الصّحيح) بإسناده عن إسحاق بن عمّار، قال: (سمعتُ أبا عبد الله عليه السّلام يقول: إنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله صَلَّى بالنّاسِ الصُّبحَ، فنَظَرَ إلى شابٍّ في المَسجد وهو يَخفقُ ويَهوي برأسه مصفَرّاً لونُه، قد نَحفَ جسمُهُ وغارَت عيناه في رأسِه، فقال له رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله: كيف أَصبَحْتَ يا فلان؟ قال: أصبحتُ يا رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله مُوقِناً، فعجبَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله مِن قوله، وقال: إنَّ لكلِّ يقينٍ حقيقةً، فما حقيقةُ يَقينِكَ؟ فقال: إنّ يقيني يا رسولَ الله هو الّذي أحزَنَني وأَسْهَرَ ليلي وأَظمأَ هَواجِري، فعزَفَتْ نفسي عن الدُّنيا وما فيها، حتَّى كأنِّي أَنظُر إلى عَرشِ ربّي وقد نُصِبَ للحساب، وحُشِرَ الخَلائقُ لذلكَ وأنا فِيهِم، وكأنِّي أنظرُ إلى أهلِ الجنّة يتنعّمُون في الجنّة ويَتَعارفون على الأرائك متّكئون، وكأنّي أَنظُرُ إلى أهل النّار وهُم فيها مُعَذَّبون مُصطَرِخون، وكأنِّي الآن أسمعُ زفيرَ النّارِ يَدورُ في مَسامِعي، فقالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله: هذا عبدٌ نَوَّرَ اللهُ قلبَهُ بالإيمان، ثمّ قال له: الزَمْ ما أنتَ عليه، فقال الشَّابُّ: اُدعُ لي يا رسولَ الله أنْ أُرزَقَ الشّهادةَ معك، فدعا له رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله، فلمْ يَلبْث أنْ خرجَ في بعضِ غَزَواتِ النّبيّ صلّى اللهُ عليه وآله، فاستُشهد بعد تسعة نفرٍ، وكان هو العاشِر).
وهذا الشّابّ هو حارثة بن مالك بن النّعمان الأنصاريّ، كما وَردت به روايةٌ أخرى.

وممّا يدلُّ على التّفاوت في اليقين حتّى في الأنبياء عليهم السّلام، ما رُوي في (مصباح الشّريعة) عن الإمام الصّادق عليه السّلام، أنّه قال: (اليقينُ يوصِلُ العبدَ إلى كلِّ حالٍ سَنِيٍّ ومقامٍ عجيبٍ، كذلك أخبرَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله عن عِظَمِ شأنِ اليقين - حين ذُكِر عنده أنّ عيسى بن مريم عليهما السّلام كان يَمشي على الماء - فقال: لَوْ زادَ يقينُه لَمَشى في الهَواء).

فدلّ بهذا أنّ الأنبياء عليهم السّلام، مع جلالة محلِّهم من الله، كانت تتفاضلُ على حقيقة اليقين لا غير. ولا نهايةَ لزيادة اليقين على الأبد، والمؤمنون أيضاً متفاوتون في قوّة اليقين وضَعْفِه، فَمَن قويَ منهم يقينُه فعلامتُه التّبرّي من الحَوْلِ والقوّة إلّا بالله، والاستقامةُ على أمر الله، وعبادتُه ظاهراً وباطناً قد استَوَت عنده حالتا العدمِ والوجودِ، والزّيادة والنّقصان، والمدح والذّمّ، والعزّ والذُّلّ، لأنّه يرى كلَّها من عينٍ واحدة، ومَن ضَعُفَ يقينُه تعلَّق بالأسباب ورخَّص لنفسه بذلك، واتّبع العاداتِ وأقاويلَ النّاس بغير حقيقةٍ، والسّعيَ في أمور الدُّنيا وجمعها وإمساكَها، يُقِرُّ باللّسان أنّه لا مانعَ ولا مُعطي إلّا الله، وأنّ العبدَ لا يُصيب إلَّا ما رُزق وقُسِمَ له، والجهد لا يزيد في الرِّزق، ويُنكر ذلك بِفعلِه وقلبِه، قال الله عزّ وجلّ: ﴿..يقولونَ بأفْواهِهِم ما لَيْسَ في قُلوبِهِم واللهُ أعلمُ بِما يكتُمونَ..﴾ آل عمران:167»، انتهى.

ومن أخبار أهل اليقين ما حكاه إبراهيم الخواصّ، قال: «لقيتُ غلاماً في التِّيهِ كأنّه سَبيكةُ فضّة، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى مكّة، فقلتُ: بلا زادٍ ولا راحلةٍ؟ فقال: يا ضعيفَ اليَقينِ، الّذي يَحفظُ السَّماوات والأرض، لا يَقدرُ أنْ يوصلَني إلى بيتِه بلا علاقة؟ فلمّا دخلتُ مكّة، إذا هو في الطّواف يقول:
يا عينُ سخِّي أبدا
يا نفسُ مُوتي كَمَدا
ولا تَخشَي أحدا
إلَّا الجليلَ الصَّمَدا

فلمّا رآني ناداني: يا شيخ، أنت بعدُ على ذلك الضّعف من اليقينِ؟ إنَّ مَن وَثَقَ باللهِ في رزقِه، لم يَطلب الرّزقَ قبل وقتِه».
وعن الإمام الصّادق عليه السَّلام إنّ الإيمانَ أفضلُ من الإسلام، وإنّ اليقينَ أفضلُ من الإيمان، وما من شيءٍ أعزُّ من اليقين.
وعن الرِّضا عليه السّلام بسندٍ صحيحٍ، قال: «الإيمانُ فوقَ الإسلام بدرجةٍ، والتَّقوى فوقَ الإيمان بِدرجةٍ، واليقينُ فوقَ التَّقوى بدرجةٍ، ولم يُقسَمْ بينَ العباد شيءٌ أقلّ منَ اليقين».
وعن أبي عبد الله الصّادق عليه السّلام أنّ «..العملَ الدّائمَ القليلَ على اليقين، أفضلُ عندَ الله من العمل الكثير على غير يقين». والأخبار في هذا المعنى كثيرة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد