السيد منير الخباز
هناك بحث كلامي حول نظرية المعرفة - وهو بحث قديم حديث -، ولكن أول من كتب في نظرية المعرفة رسالة مستقلة هو الفيلسوف الانجليزي «جون لوك» في كتابه «مقالة في الذهن البشري» عام 1690م، ثم تطور البحث حول نظرية المعرفة، إذ جاء الفيلسوف الألماني «كانت» وشيّد معالم هذه النظرية.
نظرية المعرفة: تُعرّف بأنها عبارة عن دراسة منهجية حول المعرفة، وهذه الدراسة المنهجية تبحث عن مجموعة من الأسئلة:
• ما هي المعرفة؟
• هل يمكن الوصول إليها؟
• ما هي قيمتها؟
• ما هي حدودها؟
• ما هي مصادرها؟
كل هذه الأسئلة تتعلق بالمعرفة كفكرة وكمعلومة، والبحث في ضوء هذه الأسئلة هو الذي يشكل نظرية المعرفة، بمعنى أن الإنسان يتساءل:
• هل يمكنه أن ينال الواقع؟
• هل يمكن له أن يصل إلى الواقع؟
• ما هي حدود وسعة وصوله إلى الواقع؟
• ما هي المصادر التي يعتمد عليها الإنسان في وصوله إلى الواقع؟
ولأجل ذلك نحن نبوّب ونفهرس البحث حول نظرية المعرفة في عدة مسائل :
المسألة الأولى: مصادر المعرفة.
هل الحس والعقل والحدس والإلهام مصادر موثوقة؟ وهل هي مصادر مضمونة توصل إلى معرفة يقينية؟
هنالك عدة اتجاها في الإجابة حول هذه المسألة:
1. الاتجاه التجريبي.
2. الاتجاه العقلي.
3. الاتجاه النقلي.
4. الاتجاه الحدسي.
الاتجاه الأول: الاتجاه الحسي.
يعد «جون لوك» هو رائد وإمام المدرسة الحسية التجريبية، حيث إن هذا الاتجاه يؤكد عدم وجود معرفة مضمونة إلا عن طريق الحس، وما سوى هذا المصدر فليس بمعرفة مضمونة، وذلك لأن المعرفة الحسية أو المعلومة الحسية يمكن إثبات صحتها أو خطأها عن طريق تكرار التجربة.
الاتجاه الثاني: الاتجاه العقلي.
يعتبر «ديكارت» إماما في الاتجاه العقلي. إن هذه المدرسة تؤكد على أن كل معرفة لا تعتمد طريق العقل فليست معرفة يقينية.
ولتوضيح مبنى الاتجاه العقلي، نتعرض لنوعين من المعلومات:
المعلومات البعدية: وهي المعلومات المسترفدة والمأخوذة عن طريق الإحساس، فيعبر عنها بالمعلومات البعدية لأنها في طول استخدامنا للإحساس، وفي طول استخدامنا للتجربة، فالمعلومات التي ترد إلينا بعد التجربة الحسية هي معلومات بعدية.
المعلومات القبلية: وهي معارف فطرية جُبل عليها الإنسان قبل أن يقوم بأي تجربة حسية، ولذا فهي تمثل زاد المعرفة وملاكها، وذلك لأن المعرفة العقلية هي التي تتسم بالكلية وبالضرورة، ولا يمكن الحصول على هاتين الصفتين عن طريق المعرفة الحسية فضلًا عن غيرها.
فمثلًا: عندما نأتي إلى هذه المعلومة: «كل حديد يتمدد بالحرارة»، فإنّها وإن وصلت إلينا عن طريق التجربة الحسية، إلّا أنّه لا يمكن أن نجعلها معلومة كلية، فلكل حديد ولكل ظرف ولكل واقع، ولذا يمكن تعميم هذه المعلومة إلا بالاعتماد على العقل الذي يقول: «حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد»، فنحن نحتاج إلى الاتجاه العقلي من أجل تعميم المعلومة وبهذا تتصف بالكلية.
وكذلك الحال مع الصفة الأخرى وهي صفة الضرورة، فالإحساس لا يوصلنا إلى ضروريّة المعلومة، بل غايته أن يجعلنا ننال المعلومة، أما كون هذه المعلومة ثابتة بالضرورة فلا يمكن الوصول إلى ذلك عن طريق الاتجاه الحسي، فعندما نقول: العالم موجود بالضرورة، فإن شق «موجود» يكون بالإحساس، أما كونه موجودًا «بالضرورة» فلا بد من الاعتماد على الاتجاه العقلي للوصول إلى ذلك.
إذًا: فالعقل يقوم بوظيفتين بحسب الاتجاه العقلي:
أولًا: يمتلك العقل معلومات قبلية قبل أن ندخل في التجربة الحسية، وعلى أساسها يقوم بتوجيه الإحساس، ولو لا توجيه العقل للإحساس لما استطاع الإحساس أن يصل إلى المعرفة الحسية، فنحن نحتاج إلى العقل الذي يقوم بتوجيه الحس اعتمادًا على المعلومات القبلية ك «الكل أعظم من الجزء» و«النقيضان لا يجتمعان».
ثانيًا: أن تمييز الصحيح من السقيم من المعلومات الحسية التي تصل إلينا إنما يعتمد على العقل، ولذلك نجد أن الاتجاه العقلي بنى على أن المعرفة اليقينية الحقانية لا يمكن إلا أن تكون عن طريق العقل، إذ هو المصدر الوحيد الذي يمكن من خلاله الوصول إلى المعرفة اليقينية.
الاتجاه الثالث: الاتجاه النقدي.
وهو ما بنى عليه الفيلسوف الألماني «كانت»، إذ رفض أن نعتمد على المصدر الحسي وحده أو أن نعتمد على المصدر العقلي وحده، بل إن جميع المعلومات التي تصل إلينا عبر الحس أو العقل يحتاج إلى محاكمة ونقد وتمحيص؛ ولأجل ذلك بنى على وجود سلطة أعلى من الحس والعقل، دور هذه القوة هو محاكمة المعلومات وتمييز الصحيح منها من غير الصحيح، وهذا ما يعبر عنه بالاتجاه النقدي.
الاتجاه الرابع: الاتجاه الحدسي الصوفي.
إن المدرسة الصوفية تمثل إحدى المدارس في مصادر المعرفة، وقد اعتمدت على هذا المصدر الرابع وهو مصدر الحدس، الذي قد يُعبّر عنه بالقوة أو الحاسة السادسة لدى الإنسان.
ترى المدرسة الحسيّة بأن الواقع الذي حولنا له ظاهر وباطن، ولا يمكن للحس والعقل أن يصل إلى الباطن، وإنما يصل إلى الظاهر وحسب، بمعنى أن الحس يقوم بالمرحلة الأولى، وهو أن يتلقى ظواهر الواقع الخارجي ويقوم بعرضها علينا، أما المرحلة الثانية فيقوم بها العقل، وهي مرحلة تصنيف هذه المعلومات، فيقول العقل: هذا جوهر وهذا عرض، وهذا كيف وهذا كم، وهذا نوع وهذا جنس.
ولكن لا الحس ولا العقل يمكنه أن ينفذ إلى باطن الأشياء وجذورها، لذا فنحن بحاجة إلى قوة أخرى ألا وهي قوة الحدس، فبالحدس يستطيع الصوفي أن يصل إلى باطن الحقيقة وكنهها، تلك الحقيقة التي قد لا يستطيع التعبير عنها بالألفاظ الميسورة والمتاحة.
الاتجاه الخامس: الاتجاه الإلهامي «طريق الوحي».
وهذا ما تتبناه المدرسة الإسلامية، فوراء الطريق الحسي والعقلي والحدسي طريق رابع، ألا وهو طريق الوحي.
فالبحث الأول هو بحث حول مصادر المعرفة وقد ذكرنا أن المصادر اختلفت فيها الاتجاهات لدى الفلسفة الغربية والفلسفة الشرقية.
المسألة الثانية: علاقة القوة المدركة مع الواقع الخارجي.
ما هي علاقة القوة المدركة لدى الإنسان مع الواقع الخارجي؟ إن هذا ما يسمى بالبحث حول طبيعة المعرفة وماهية المعرفة، وفي هذا البحث يوجد لدينا اتجاهان: اتجاه واقعي واتجاه مثالي.
الاتجاه الأول: الاتجاه الواقعي.
وهو الذي يؤمن بوجود واقع، فوراء إدراكنا واقع قد نناله تارة وقد نخطئه تارة أخرى، وهذا الاتجاه على مدرستين:
المدرسة الأولى: الواقعية المطلقة، وهي ما نحن ندركه قبل أن ندخل إلى الحوزة، وقبل أن نتكلم في هذه المسائل، فنحن بطبيعتنا وبفطرتنا نؤمن بالواقعية المطلقة، ومعنى الواقعية المطلقة: أن الإنسان يؤمن أنه ينال الواقع بعقله أو بحسه، وأن هذه الصور التي ترتسم في أذهاننا عن الواقع هي صور متطابقة مع الواقع 100%.
المدرسة الثانية: والتي يؤكد عليها «كانت» وهو من الاتجاه الواقعي، فينص على أن المعرفة نسبية وليست معرفة مطلقة، وذلك لأن الواقع الذي حولنا تنقسم صفاته على قسمين: صفات ثابتة وصفات متغيرة ثانوية.
الصفات الأولية الثابتة: وهي التي لا تختلف باختلاف الأشخاص، ولا باختلاف الظروف ولا وسيلة الإدراك، فمثلاً هذا الجسم الذي أمامي له شكل له امتداد وله صلابة، فهذه الصفات صفات ثابتة لا تتغير بتغير الأشخاص ولا بتغير الظروف أو الوسائل.
الصفات الثانوية: فاللون والطعم والرائحة هي صفات غير ثابتة، إذ يختلف اللون باختلاف الناظر، وتختلف الرائحة باختلاف الإحساس، وكذلك الطعم يختلف باختلاف الإحساس، بل قد قال كثير من العلماء بأنه لا يوجد للواقع لا لون ولا طعم ولا رائحة، إذ إن كل ذلك هو صنيعة قوى داخلنا، بدون أن يكون لها واقع خارجي.
فبما أن الأشياء التي حولنا لها صفات ثابتة وصفات غير ثابتة، إذًا فمعرفتنا بالواقع الذي حولنا معرفة نسبية وليس معرفة مطلقة؛ لأن المعرفة تحتاج إلى تمييز الصفات الأولية من الصفات الثانوية، وتحتاج إلى ميزان يثبت لنا أن هذه صفة أولية أو صفة ثانوية، وأن هذه مطابقة أو غير مطابقة، ونحن لا يمكن لنا أن نصل إلى المعرفة المطلقة، وإنما المعرفة وإن كانت معرفة واقعية إلا أنها معرفة نسبية وليست معرفة مطلقة.
الاتجاه الثاني: الاتجاه المثالي.
وهو الذي ينكر الوصول إلى معرفة الواقع، أصلاً لا يمكن الوصول إلى الواقع، إما لمثالية في الإدراك، أو لمثالية في المدرَك، أو لمثالية في الواقع، فهم على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: وهو الذي يرى أن المثالية في الإدراك، ف «هيجل» صاحب المنطق الديالكتيكي يرى أن المثالية في الإدراك، إذ هو يرى أن أي فكرة ترد على ذهن الإنسان فإنّها تستبطن نقيضها معها، وبما أن كل فكرة تحمل في باطنها نقيضها فنفس الإدراك هو إدراك مثالي غير منضبط، وعليه: لا يمكن للإنسان أن يصل إلى الواقع.
الصنف الثاني: وهو المثالية في المدرَك، بمعنى أن الإدراك وإن كان إدراكًا سليمًا، ولكن لا يوجد وراء إدراكنا واقع نستطيع أن نضع أيدينا عليه. فأصحاب الاتجاه الواقعي يرون أن لكل شيء جانب ذاتي وجانب موضوعي، فأما الجانب الذاتي فهو إدراكي للشيء، وأما الجانب الموضوعي فهو واقعه وراء إدراكي، إلا أن المثاليين يرون أن لا وجود لجانب موضوعي وأخر ذاتي، فالواقع ليس إلا ما ندركه من الأفكار المرتسمة في أذهاننا، وليس وراءه واقع له جانب موضوعي.
الصنف الثالث: وهو المثالية في الواقع، وهو الذي يتعلق بنظرية المُثُل الإفلاطونية، تنص هذه النظرية على أن هناك واقع، إلا أن هذا الواقع له حقيقة مثالية لا نصل إليها، لأننا لا نملك إلا الحواس والحواس لا تصل إلى الحقائق المثالية، وإنما تصل إلى ظواهر الأشياء، ما يُعيقنا عن الوصول إلى الواقع هو أن الحقائق مثالية، والمثالية لا يمكن أن تُنال بالحس.
المسألة الثالثة: حدود المعرفة.
ما هو الحد الذي يستطيع الإنسان أن يصل إليه من المعرفة؟
الاتجاه العقلي يرى أن معرفة الإنسان معرفة مطلقة، فيمكن للعقل أن يصل إلى المعرفة اليقينية لا بالطبيعة فقط بل حتى لما وراء الطبيعة، بينما الاتجاه الحسي يرى أنّه لا يمكن للإنسان أن يصل إلى المعرفة اليقينية إلا عبر التجربة الحسية، وقد تعرضنا للالاتجاه الحدسي والإلهامي والنقدي.
مما يهم ذكره في هذا المبحث - وهو مبحث حدود المعرفة -: إن هناك فرقًا بين الشك السفسطائي والشك المنهجي، فالشك السفسطائي لا قيمة له، إذ السفسطائيون قالوا: لا يمكن أن نصل إلى اليقين أبدًا، فالشك يمثل غاية بالنسبة لهم، فهذا المذهب مذهب فاشل عقيم لم يقم حجج ولا براهين على دعواه، بل اقتصر على طرح الشك.
أما الشك المنهجي الذي ذكره «ديكارت» فقال: الشك طريق إلى اليقين، أي الشك وسيلة - وليس غاية - للوصول إلى المعرفة اليقينية، ولذا فجميع المدارس الفكرية تتبنى الشك المنهجي، بما فيها المدرسة العقلية والنقدية والحدسية والإلهامية.
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
فلسفة العمل ومبدأ التنمية المتواصلة
كيف يسمح الدّماغ بشعورين متناقضين؟
المعروف والمنكر والأكثريّة الصّامتة
الإسلام ونظريّة الأخلاق
رؤية المدرسة الإماميّة في جمع القرآن
الشيخ عبدالكريم الحبيل: أخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي