علمٌ وفكر

الحُجُب أربعة: المالُ، والجاهُ، والتّعصُّب، والمعصية

 

صدرِ المتألِّهين الشّيرازيّ
 

اعلم أنَّ مَن شاهدَ حقارةَ الدُّنيا وفناءَها، وعَلِمَ عِظَمَ الآخرةِ وبقاءَها -إمّا بحَسب تقليدٍ إيمانيٍّ أو بحَسبِ عرفانٍ قلبيٍّ بُرهانيٍّ- أصبحَ بالضَّرورة مُريداً لِحَرْثِ الآخرةِ، مُشتاقاً إليها، سالِكاً سبيلَها، مُستهيناً بِنَعيمِ الدُّنيا. فإنّ مَن كان معهُ خَرَزَةٌ فرأى جوهرةً نفيسةً، لم يَبْقَ له رغبةٌ في الخَرَزة، وقَوِيَتْ رغبتُه في بَيْعِها بالجوهرة. فمَن ليس مُريداً حَرْث الآخرةِ طالباً للقاءِ الله، فهو لِعَدَمِ إيمانِه باللهِ تعالى واليومِ الآخِرِ إيماناً قلبيّاً، دون تحريك اللّسان بالكلمتَين [كلمتَي الشّهادة]، أو حديث القلب بهما. 


السّلوك: الموانعُ والمقدِّمات
إذاً، المانعُ من الوصول عدمُ السُّلوك، والمانعُ منه عدم الإرادة، والمانعُ منها عدم الإيمان، والسَّببُ لِعَدَمِه: عدمُ قوَّة التَّفطُّن بحقائقِ الأمور، لاستيلاءِ الهوَى والشَّهوات، وغِلْظَةُ الحُجُبِ وتراكُمُ الظُّلمات، وعدمُ [وجود]الهُداة المُذكِّرين بأحوالِ المبدأ والمعاد، وفَقْدُ العلماء باللهِ واليوم الآخِرِ الهادِين إلى طريق اليقين، والمُنَبِّهين على حقارةِ الدُّنيا وانقراضها، وعِظَمِ أمرِ الآخرةِ ودوامها. فالنَّاسُ حيث إنَّهم غافلون، قد انهَمَكوا في شَهَواتِهم وغاصوا في رَقْدَتِهم، وليسَ من عُلماء الدِّين مَنْ يُنَبِّهُهُم، فإنْ طَلَبَ أحدٌ طريقاً إليهم وَجَدَهُم مائلين إلى الهوى، عادِلينَ عن نهج الآخرةِ ويوم الدِّين، فصارَ ضعفُ الإرادةِ، والجهلُ بالطَّريقِ، ونُطقُ العلماء [علماء السّوء] بالهوى، أسباباً قاطعةً لطريقِ اللهِ عن السَّالكين. ومهما كان المطلوبُ محجوباً، والدَّليلُ مفقوداً، والهوى غالباً، والطَّالبُ غافلاً، امتَنَع الوصولُ وتعطَّلَت الطُّرُق. فإنْ تَنَبَّهَ مُتَنَبِّهٌ مِن نفسِه أو مِن غيرِه، وانبَعَثَ له إرادةٌ في حَرْثِ الآخرةِ وتجارتِها، فيَنبغي أنْ يَعلمَ أنَّ لهُ:
1- شروطاً لا بدَّ [مِنها] في بداءة الإرادة.
2- وله مُعتصَمٌ لا بدَّ من التَّمسُّك به.
3- وله حِصْنٌ لا بدَّ من التَّحصُّن به، ليَأمَنَ مِن الأعداءِ القطَّاع لِطريقِه.
4- وله وظائفُ لا بدَّ مِن مُلازمَتِها في وقت سُلوكه.


*أمّا الشُّروط، فهي رفعُ الحجابِ والسَّدّ الذي بينَه وبين الحقّ، فإنَّ حرمانَ الخَلْقِ عن الحقِّ سَبَبُهُ تراكُم الحُجُب ووقوعُ السَّدّ على طريقِهم، قال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ يس:9.والحُجُب أربعةٌ:المالُ والجاهُ و[التّعصّب]والمعصيةُ، فلا بدّ أن يَرفع عن نفسِه:
الأوَّل: بالتَّفريق والإخراج عن مُلْكِهِ إلَّا قَدْرَ ضرورتِه لئلّا يكون قلبُه مشغولاً ولو بدرهمٍ، لأنَّه بِقَدرِه يَحجُبُه عن الحقّ.
والثّاني: بالبُعد عن مواضعِ الجاهِ، وبإيثار التّواضعِ والخُمولِ والهَرَبِ من أسباب الذِّكْر والشُّهرة. 
والثّالث: بأنْ يتركَ التّعصُّب لمذهبٍ دونَ مذهب، ويَطلبَ حقيقةَ الأمرِ في اعتقاداته التي تلقَّفَها تقليداً من المجاهدة، لا من المجادلة.
والرّابع: بالتَّوبةِ والخروج من المَظالِم، وتصميمِ العزمِ على عدم العَوْدِ، وتحقيقِ النّدم على ما مَضى، وردِّ المَظالِم وإرضاء الخُصوم، لأنَّ ما لم يَرفع حُجُبَ المعاصي بما ذُكِرَ، فيَستحيلُ أنْ يُفتَحَ للسَّالكِ بابُ المكاشفة. 


المُعتَصَم والحصن
فإذا قدّم هذه الشُّروط، كان كَمَن تَطَهَّر وتوضَّأ للصَّلاة الّتي هي مِعراجُ المؤمن. فيَحتاج إلى إمامٍ يَقتدي به.. ليهديه إلى سَواءِ السَّبيل، وهذا هو المُعتصَم للمُريد بعد تقديم الشُّروط المذكورة. فإذا وَجَد مثل هذا المُعْتَصَم، فيجبُ عليه أن يعصمَه بحصنٍ حصينٍ يدفعُ عنه قواطع الطَّريق، وهي أمورٌ خمسة [جُمعت في عبارة واحدة]: صمتٌ، وجوعٌ، وسَهَرٌ، وعزلةٌ، وذِكرى بِدَوام.

أمّا الجوع: فلِتَبييضِ دَم القلب، وفي تَبييضِه تَنويرُه، ولإذابةِ شَحْمِ الفؤاد، وفي ذَوَبانه رِقَّتُه الّتي هي مفتاحُ المكاشَفة، كما أنَّ قَسوَته سَبَبُ الحجاب.
وأمّا السَّهَر: ففيه جلاءُ القلبِ وصفاؤه وتنوُّرُه منضافاً إلى الصَّفاء والنُّور الحاصِلَين بالجوع، حتّى يَصير القلبُ كَالكَوكبِ الدُّرِّيّ والمرآة المجلوَّة، تلوح فيه حقائق الأمور. والسَّهرُ أيضاً نتيجة الجوع؛ فإنَّه مع الشَّبعِ غيرُ مقدور، والنَّومُ يقسِّي القلبَ ويُمِيتُه إلَّا بقدرِ الضَّرورة، وقيلَ في صفة الأبدال: إنَّ أكلَهُم فاقةٌ، ونومَهُم غَلَبَةٌ، وكلامَهُم ضرورة.
وأمَّا الصَّمت: فلأنَّ الكلامَ يَشغلُ القلبَ، وشَرَهُ القلوبِ للكلامِ عظيمٌ فيتروَّحُ إليه؛ فالصّمتُ يُلَقِّحُ العقلَ، ويَجلبُ الوَرَعَ، ويُعلِّمُ التَّقوى.
وأمَّا العزلة والخَلوة: ففائدتُهما دفعُ الشَّواغل وضبطُ السَّمعِ والبصر؛ فإنَّهما دهْلِيزا القلب، فلا بدَّ من سدِّ الحواسِّ إلَّا عن قَدْرِ الضَّرورة ".


والسُّلوكُ عبارةٌ عن قطعِ العَقَبات بين العبدِ وبين الله تعالى، وليست هي إلَّا صفاتُ القلب التي عُمْدَتها التَّعلُّق بالدُّنيا وهو رأسُ كلِّ خطيئة، وبعضُ تلك العَقَبات أعظمُ مَن بعضٍ، والتّرتيبُ في قَطْعِها الاشتغالُ بالأَسهلِ فالأَسهل.
وهذه الصِّفات الذَّميمة أسرارُ العلائق التي قَطعها في أوَّل الإرادة، وآثارها الباقية، فلا بدَّ أن يُخلِي الباطنَ عن آثاِرها كما أَخْلَى الظَّاهر عن أسبابها الظَّاهرة، وفيه يَطولُ المجاهدة ويَختلفُ ذلك باختلافِ الأحوال.
وطريقُ المجاهدة في كلِّ صفةٍ غالبةٍ ذميمةٍ مضادَّةُ الهوى ومخالفةُ الشَّهوة بتَرجيحِ ما يُقابلها ليَضعف، ولا يبقى تعلُّقٌ للقلبِ بها. فإذا فعلَ المجاهدة .. يَقتصرُ على الرّواتب والفرائض ويكون وِرْدُه ورداً واحداً وهو لُبابُ الأورادِ وثَمَرتُها، أعني ملازمةَ القلب لِذِكْرِ الله بعد الخلوِّ من ذِكْرِ غيره.


الوساوسُ والقَواطع
وربَّما يَرِدُ عليه من وساوس الشَّيطان ما هو كُفرٌ أو بِدْعة، ومهما كان كارِهاً له ومشمّراً لِإماطَتِه عن القلبِ، لمْ يَضُرّه ذلك. وهي [الوساوس] منقسمةٌ إلى ما يَعلم قطعاً أنّ اللهَ تعالى منزَّهٌ عنه فلا يُبالي به، ويَفزعُ إلى الذِّكر، ويَستعيذُ باللهِ ليَدفعهُ عنه، كما في قوله ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ..﴾ الأعراف:200، وإلى ما يَشكّ فيه، فيعرضُه وسائرَ ما يَجِدُه في قلبِه من الأحوال [على عالمٍ من العلماء] ويَسترُه عن غيرِه.
".."[واعلم]أنَّ مَن اشتَغلَ بالفِكْرِ ودَفْعِ الشَّواغلِ والعلائقِ عن قلبِه، فقد رَكِبَ سفينةَ الخَطَر؛ فإنْ سَلِمَ كان من ملوك الدِّين، وإنْ أَخطأَ كانَ من الهالِكين، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله: «عليكم بِدِينِ العجائز».
ثمَّ المُريد المُتجرِّد للذِّكر والفِكْرِ قد يَقطعُهُ قواطِعُ كثيرةٌ من العُجْبِ والرِّياءِ والفرحِ، ممَّا يَنكشفُ له من الأحوالِ وما يبدو من أوائل الكرامات، ومهما التَفَتَ إلى شيءٍ من ذلك وشَغل به نفسَه، كان ذلك فتوراً في طريقِه ووقوفاً. بل ينبغي له أن يُلازمَ حالَه جُملة عُمرِه ملازمةَ العطشانِ الذي لا تَرويه البحار ولو أُفيضت له، ويَدوم عليه. ورأسُ مالِهِ الانقطاعُ عن الخَلْقِ والخَلْوة، فإذا داوَم على ذلك وحصل قلبُه مع الله، انكشَف له جلالُ الحضرةِ الرُّبوبيّة، وتجلَّى له الحقُّ، وظَهرَت له لطائفُ رحمةِ اللهِ، ما لا يجوزُ أنْ يوصَف، بل لا يُحيطُ الوصفُ به أصلاً.
فهذا منهاجُ رياضة المريد وتربيتِه في التّدريج إلى لقاءِ الله تعالى، لخَّصناه من بعضِ كُتُبِ أهلِ العرفان. فلنَختُم به الكلامَ حامداً الله العزيز المنّان، ومصلِّياً على رَسولِهِ المبعوثِ لهدايةِ كافَّة العقلاء من الإنس والجانّ، وآلِهِ الهادِينَ إلى طريقِ الجِنانِ، المطهَّرين عن أدناسِ الرَّذائل والنُّقصان.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد