علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

البنى المعرفية ومقصلة التفكيك (1)

 

إيمان شمس الدين

مدخل
أغلب معاييرنا اليوم تم تفريغها تدريجيًا من محتواها الدلالي خاصة المعنوي، وتم إحلالها بدلالات مادية محضة، وبطريقة ناعمة تعمل على منطقة اللاوعي، ثم تتحول تدريجيًا في المجال الإدراكي إلى وعي بعد أن تمهد القابلية الحسية والعقلية لقبول المعايير بحلتها الجديدة. وحلتها الجديدة لا تعني تغيير ظاهرها حتى لا يتم مواجهتها، بل تعني تغيير محتواها الداخلي والمعنوي بالذات مع الحفاظ على شكلها وظاهرها.

مسوغات التفكيك المنهجي
وعملية التفكيك المنهجي للبنى المعرفية تتم دون أدنى مقاومة، لعدة أسباب أهمها:
– سهولة الحصول على التكنولوجيا والانترنت وانتشارهما بطريقة أوجدت صعوبة في الاستغناء عنهما ليصبحا من الضروريات الحياتية حتى لفقراء الحال.
– وجود الأرضية والقابلية لعملية التفكيك، نتيجة الوهن والضعف في جسد الأمة، وغياب المنهج والأدوات العقلية في تحقيق المعارف، وفي تقييم المعارف القادمة، لانعدام المشاريع النهضوية الثقافية.
– الاستبداد وتحالفاته التي جعلت من كثير من الفقهاء أتباع للبلاط يشرعنون وجوده، واستقطبت كثير من المثقفين إلى نفس البلاط من خلال إنشاء مراكز دراسات بدعم حكومي يشغل المثقفين بانشغالات فكرية ثقافية لكنها غالبًا مخملية بعيدة عن هموم الناس والواقع، تنظيرية غير قابلة للتطبيق ولجذب الناس، فخدرت عددًا كبيرًا من المثقفين بالثقافة، وشغلتهم عن الجماهير وعزلتهم. فهيمنت على الجمهور بالقوة وعطلت العقول بالفتوى.
– الإعلام ودوره في تزييف الوعي، وهدم البنى المعرفية وتعطيل عملية التفكير.
-تردي مستوى التعليم في المجتمعات، مع انتشار المناهج الدينية المتطرفة التي عطلت قدرة العقل على السؤال، من خلال ثقافة الإقصاء وتحديد الحقيقة بمنهج واحد لا شريك له.
– عجز الوسط المتدين عن تقديم مشاريع نهضوية، قادرة على تثبيت الثابت وتطوير المتغير، بل كان سببًا في تسرب عدد كبير من الشباب من أوساطه إلى أحضان الحداثة والعولمة، بعد عجزه عن الإجابة على التساؤلات العقدية الكبرى.
– تمييع الهوية من خلال تغيير قائمة الأولويات، وضرب منظومة المعايير والقيم، وتضارب الواقع مع النظريات، لابتعاد المنظرين عن واقع الناس وحاجاتهم وأهم إشكالياتهم التي تصوغ لهم كثير من التساؤلات وتضعهم في فوضى الأفكار.
– الحروب الدموية التي جرت الجميع وأشغلتهم بالسياسة على حساب المعرفة، وبالقتال على حساب الحياة والبناء. وهي حروب غالبًا مفتعلة لجر الشعوب للحروب حتى تنشغل بها عن الاشتغال بالمعرفة والنهوض بالأسئلة الكبرى للإجابة عليها.
انتشار البطالة والفقر والأمية التي دفعت كثيرين للهجرة للبحث عن لقمة العيش و عن مصادر تمويل للدراسة، حيث أدخلت المهاجرين في صدمة حضارية في الغرب، مكنت انسلاخهم من هويتهم لفقرهم المعرفي والمادي والمعنوي، والذي أغناه الغرب بحداثته وحضارته.

بين أصالتين
يتبنى الغرب أصالة الفرد في مقابل أصالة المجتمع، ويعتبر وفق ذلك مفهوم الحرية قائمًا على هذه الأصالة، ومن ثم يتحرك ضمن هذا التبني القاعدي، في دائرة المفاهيم والقيم لتتناسب وهذا الأصل.
فيكرس “للأنا” الفردية تكريسًا ماديًّا يؤسس على ضوئه حركة المجتمع والدولة والقانون وحركة التاريخ.
بينما الحقيقة تكمن في دمج كل من أصالة الفرد وأصالة المجتمع، فلا الفرد أصيل مستقلًّا، ولا المجتمع كذلك.
بل المجتمع نواته الفرد، والفرد امتداده الحركي والعملي والفعلي هو المجتمع، فكلاهما ينهضان بالأخر، وكلاهما حاجة للآخر. هذا فضلًا عن أن حرية الفرد لا تتخطى حدود المجتمع العقلانية، وحرية المجتمع وحدوده لا تلغي أبدًا الفرد كونها قائمة بنيويًّا عليه. فتحرير الفرد تحريرًا ذاتيًّا من كل أنواع الأغلال والعبوديات التي تتجلى بأنظمة مستبدة، أو قوانين جائرة وغياب عدالة، هو تحرير لكل طاقاته وعقله وإبداعاته في إعمار محيطه بكل ما ينفع.
والتركيز على أصالة الفرد هو تفكيك لهذا التزاوج الضروري التلازمي، وبالتالي تفكيك للمجتمع ومكوناته الاجتماعية وأهمها الأسرة التي تعتبر نواة للمجتمع فوق الفرد، بمعنى أن الفرد نواة الأسرة وفي ذات الوقت نواة المجتمع، لكن الأسرة أيضًا نواة في الطبقة الثانية للمجتمع في طولها تقع نواتية الفرد وهي في طول المجتمع.

الفرادة والفردانية
واليوم كثير من العناوين التي تطرحها ما يسمى بدورات التنمية البشرية، والتي تركز على الأنا والذات الأنانية وتكرسها كأصيل وأولوية مطلقة قد تكون في عرض الأسرة والمجتمع، هي عناوين خرجت من رحم مفهوم أصالة الفرد، وهي دعوة صريحة للفردانية.
يقول الدكتور علي وطفة في محاولته لتعريف الفردانية:
ترمز الفردانية إلى واقع اجتماعي وثقافي يستطيع فيه الناس، بوصفهم أفرادًا، اختيار طريقة حياتهم وسلوكهم وممارسة عقائدهم، كما ترمز إلى مجتمع يضمن فيه النظام الاجتماعي والقضائي حماية حقوق الناس بوصفهم أفرادًا غير مكرهين على التضحية أو التنازل عن شيء يعتقدون به.
ويؤكد د.علي وطفة أن موطن الاختلاف بين الفردانية والذاتية في أن الأخيرة تتجلى في اللحظة التي يرى فيها الفرد أنه محور الوجود ومركز الكون استجابة لنزعة أنانية سافرة ناضحة بالنرجسية، بينما لا تستلزم الفردانية سوى اتخاذ موقف معين من قضية ما أو مجموعة قضايا عن معرفة ووعي بأبعاد هذا الموقف.
والفردانية هي موقف أخلاقي وفلسفة سياسية، ونظرة اجتماعية تؤكد على القيمة المعنوية للفرد. وتدعو إلى ممارسة أهداف الفرد ورغباته لتكون قيمه مستقلة ومعتمدًا على نفسه، وتعتبر الفردانية أن الدفاع عن مصالح الفرد مسألة جذرية يجب أن تتحقق فوق اعتبارات الدولة والجماعات، في حين يعارضون أي تدخل خارجي على مصلحة الفرد من قبل المجتمع أو المؤسسات مثل الحكومة. وغالبًا ما تتناقض الفردانية والديكتاتورية أو الجماعية. موسوعة ويكيبيديا.

مثلًا دعوات تقديم النفس على كل شيء، والاعتناء بها فوق كل شيء، والتركيز على سعادتها قبل أي شيء، ككوني أنت، وأنا الأول وغيرها من العناوين التي تدور في فلك الأنا والذات وتقدم مفاهيم مادية تشخص حاجات هذه الأنا، هي من ذات ذلك الأصل ” أصالة الفرد”.
هذا فضلًا عن التركيز على حقوق الفرد دون التأسيس لمنظومة حقوق وواجبات تأخذ بالحسبان شبكة العلاقات الوظيفية والتفاعلية المتعلقة في الفرد، سواء نلك الطبيعية الفطرية أو الاعتبارية النظمية.
ومثال ذلك الحرية كحق أصيل للفرد، وهي فضلًا عن كونها حق طبيعي فطري تكويني، إلا أننا لا نستطيع فصلها كحق فردي عن دائرة المجتمع، وعن دائرة النظم والقانون.
فالفرد يولد وله بعدان حقيقي وحقوقي، فالأول متعلق به كذات وكشخصية حقيقية لها مجموعة حقوق وعليها مجموعة واجبات، كون لا يخلو حق من واجب متلازم معه، والثاني عبارة عن مجموعة العلاقات والارتباطات التي يرتبط فيها بعد ولادته بشكل حقيقي أو كفرد من أفراد المجتمع بشكل اعتباري، ويترتب عليها مجموعة حقوق له ومجموعة واجبات عليه.
هذا التوازن بين الحق والواجب وبين الحقوق الفردية والاجتماعية لا يلغي الفرد لكنه يرسم له شبكة علاقاته وحدودها الحقوقية والقانونية التي تعتبر حاجة ضرورية للنظم والتطوير، بل حاجة لازمة لخلق جو تفاعلي يرتكز على التنافس التصاعدي المتوازي لا التنافس التصادمي المتقاطع، فالأول يفجر طاقات الفرد والمجتمع، والثاني يدخلها في صراعات قاتلة وهدامة.
فالتوازن هو بين بناء الذات والاهتمام بها من حيث النوع والكم والمعنى والمادة، مع ضرورة إهمال الأنا الفرعونية بل محاربتها، وبين الاندماج بالمجتمع والتفاعل والانفعال معه في التغيير والتطوير وخدمة الإنسانية. فهو توازن بين ضرورة بناء الذات في كافة أبعادها، وبناء المجتمع في كافة احتياجاته.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد