علمٌ وفكر

التطوير الفقهي في فكر الشهيد الصدر

 

الدكتور عبد الهادي الفضلي
يُلخّص [الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدّس سرّه] النظريّة الإسلاميّة الاقتصاديّة: في أنّ المذهب الاقتصادي الإسلامي يقوم على ثلاثة مبادئ أساسيّة، تتكامل في ما بينها لتؤلّف النظريّة الاقتصاديّة الإسلاميّة، وهي:
الأوّل: مبدأ الـمُلكيّة المزدوجة.
الثاني: مبدأ الحريّة الاقتصاديّة في نطاق محدود.
الثالث: مبدأ العدالة الاجتماعيّة.
الأوّل: مبدأ الملكيّة المزدوجة التي تتألّف من:
أ- الملكيّة الخاصّة أو الملكيّة الفرديّة.
ب- الملكيّة العامّة أو ملكيّة الأمّة.
ت- ملكيّة الدولة.
هذه الملكيّات الثلاث تؤلّف مجتمعة مبدأ الملكيّة في الاقتصاد الإسلامي.
الثاني: مبدأ الحريّة الاقتصاديّة في نطاقٍ محدود:
والحريّة -هنا- تعني السَّماح للأفراد بممارسة العمل الاقتصادي، ولكن في حدود القِيَم المعنويّة والأخلاقيّة التي يؤمن بها الإسلام.
وتُحدَّد هذه الحريّة من جانبين، هما: 
أ‌- التحديد الذاتي الذي ينبع من أعماق النفس، ويستمدّ قوّته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصيّة الإسلاميّة. ويتأتّى هذا عن طريق التربية الخاصّة.
ب‌- التحديد الموضوعي الذي يعبّر عن قوّة خارج الذات والنفس، تقوم بضبط وتحديد السلوك الاجتماعي، وتلك القوّة هي القانون في تشريعاته الخاصّة، كَمَنْع الرِّبا والاحتكار والتلاعب بالأسواق، وفي تشريعاته العامّة بما يعطيه لوليّ الأمر أو الدولة من صلاحيّة التدخُّل في ضبط حركة المال، من خلال التوازن بين المصالح المشتركة للأفراد والأُمّة والدولة.


الثالث: مبدأ العدالة الاجتماعيّة:
ويتمثّل هذا المبدأ في نظام توزيع الثروة الماليّة الذي يقوم على مبدأَيْن، هما:
أ‌- مبدأ التكافل العام.
ب‌-  مبدأ التوازن الاجتماعي.
ثمّ لا بدّ من أن تلتزم النظريّة الاقتصاديّة الإسلاميّة أو قُلْ: المذهب الاقتصادي الإسلامي، التحرّك في عالم الواقع، وفي هدي الأخلاقيّات الإسلاميّة.
هذه هي خلاصة النظريّة الاقتصاديّة الإسلاميّة التي استخلصها الشهيد الصدر من واقع وطبيعة الفقه الإسلامي.
أمّا تفصيلاتها وتفريعاتها وأدِلَّتها الشرعيّة ومقارنتها مع الاشتراكيّة والرأسماليّة، فذلك ما اشتمل عليه كتابه القيّم (اقتصادنا).
والذي نفيده عمليّاً وفي مجال تطبيق الإسلام في واقعنا كمسلمين، هو إقامة النظام الاقتصادي الإسلامي بمواده الشرعيّة الـمُقنَّنة على أساسٍ من هذه النظريّة، وذلك بأن تكون هذه النظريّة الـمُنطَلَق الشرعي، والـمَقصد الشرعي في وضع النظام التقتصادي الإسلامي.
هذه هي النظريّة التقتصاديّة الإسلاميّة في مفهومها الشرعي، ومُجمل أبعادها وسِماتها.
أمّا المشكلة التقتصاديّة في رأي أستاذنا الإمام الصدر فتَتمثَّل في بُعدَين يعيشان حياة المسلمين الراهنة:
1- سوء توزيع الثروة الموجودة في الوطن الإسلامي.
2- إهمال المسلمين لاستثمار الموارد الماليّة في الطبيعة.
قام بعض الباحثين بإعداد كشف بالثروة المعدنيّة المتوفّرة في البلدان الإسلاميّة (عدا النفط)، يُبيِّن بكل وضوح أنّ عالمنا الإسلامي يَحتضن في باطن أرضه أنواعاً متعدِّدة من المعادن، على الرغم من محدوديّة الدراسات المتوفّرة حاليّاً، إذ لا زالت مساحات شاسعة من أراضي البلدان الإسلاميّة لم تَصِلها عمليّة المسح الجيولوجي الشامل والدَّقيق، ولم يُعرف بشكل جيّد ما يُخبّئه جَوْف هذه الأراضي من معادن، عدا بعض المناطق التي يُحتمَل وجود النفط فيها.
وتشير نتائج الدراسات التي أُجريت لحدّ الآن كلّها تشير إلى أنّ المتاح من هذه الثروة في عالمنا الإسلامي يبشّر بِخَيْر عميم ونعمة وفيرة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، إنّ البلاد العربيّة تستأثر على 70% من الاحتياطي العالمي للفوسفات، و14% للكبريت.
أمّا بشأن الاستغلال الفعلي لهذه الثروة، فلا زال دون مستوى الطُّموح، إذ أنّ المستخرَج لبعض المعادن بمستوى محدود، بالإضافة إلى بقاء العديد منها بعيداً عن دائرة النشاط الاستخراجي. فمثلاً، إنّ العالم الإسلامي ينتج من الحديد ما يعادل 15% من الإنتاج العالمي، و24% من إنتاج المنغنيز، و56% من إنتاج القصدير، و23% من إنتاج الألمنيوم، و25% من إنتاج الفوسفات، و4% من إنتاج النحاس.
إنّ حالة القصور في استغلال هذه الثروة، إذا كانت تمثّل خسارة ماديّة لعالمنا الإسلامي، على أساس تعطيل مصدر الدخل القومي، فهي من الناحية الشرعيّة تجسّد حالة بارزة من حالات سوء التصرّف والاستغلال للموارد الاقتصاديّة لبَني الإنسان، وتعكس الابتعاد عن أحكام الشريعة الإسلاميّة السَّمحة في هذا المجال.
يقول الشهيد السعيد آية الله الصدر في تعرّضه لهذا الجانب من الاستثمار الإقتصادي:
«اعتبر الإسلام فكرة التعطيل أو إهمال بعض مصادر الطبيعة أو ثرواتها، لوناً من الجُحود وكفراناً بالنعمة التي أَنعم الله تعالى بها على عباده».

 

وفي القرآن الحكيم حثٌّ واضح وتأكيد بَيِّن على وجوب الاهتمام بهذه الخيرات والنِّعَم، بقوله تعالى: ﴿قُل مًن حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصّل آيات لقومٍ يعلمون﴾ الأعراف:32.
وفيما يتعلّق بِمَآل المعادن المُستخرَجة، وهل تساهم بدور فاعل ومباشر في عمليّة التنمية، وبالتحديد في مجالات التطوير الصناعي لبلدان العالم الإسلامي، فالواقع الحالي لاستخدام هذا النَّوع من الموارد الاقتصاديّة في غالبيّة البلدان الإسلاميّة لا يُقدّم أيّ مظهر إيجابي، أو ممارسة جادّة للاستفادة من الخدمات المُستخرَجة حاليّاً في مجال الصناعة الوطنيّة، وإنّ جُلَّها لا زال يُصَدَّر على هيئة مواد نهائيّة قابلة للاستهلاك أو الاستعمال، ومن ثمّ يعيد تصديرها إلى البلدان الإسلاميّة والمستضعفة ليحقّق بذلك أرقاماً خياليّة من الأرباح، مسخِّراً هذه النِّعَم والخيرات لصالحه وصالح احتكاراته العالميّة.
فمع الأسف الشديد، إنّ معظم الإنتاج المعدني في العالم الإسلامي يوجَّه إلى التصدير والتجارة الدوليّة. وكمثال على هذا الوضع، فإنّ 90% من إنتاج المنغنيز يُضَخّ إلى الأسواق العالميّة، ويتّجه إنتاج القصدير كلّه إلى التجارة الدوليّة، وكذلك الحال بالنسبة إلى إنتاج الحديد والرصاص. وفي هذا السياق أيضاً، تشير دراسة مفصّلة أعدّها «الاتّحاد العام لِغُرَف التجارة والصناعة والزراعة العربيّة» أنّ 25% فقط من المعادن المُنتَجة في البلاد العربيّة يخضع لعمليّات صناعيّة محدودة، ويصدّر الباقي إلى الأسواق العالميّة.
هذا، وإذا أُضيف إليه أنّ الكميّة المهدورة من الغاز الطبيعي في البلاد الإسلاميّة قُدِّرت لعام 1980م بحوالي عشرة مليارات دولار.
ألا يدلّ هذا على أنّ هنا -من جانبنا نحن المسلمين- إهمالاً، وأنّ هناك من جانب الدول الإمبرياليّة استغلالاً.
ألا يضع هذا الأمّةَ الإسلاميّة أمام مسؤوليّتها عن هذا الإهمال وجهاً لوجه؟


هذا في الثروة المعدنيّة غير النفطيّة.
أمّا في الثروة النفطيّة أو البتروليّة، فقد ذُكر أنّ الاحتياطي للبترول في العالم الإسلامي يُقدَّر بحوالي 63% من مجموع الاحتياطي العالمي للنفط الخام.
وقَدَّر الخُبراء العالميّون الاحتياطي العالمي في السبعينات بحدود 715 مليار برميل وما هو موجود في الأراضي الإسلاميّة يقارب 450 مليار برميل، وقُدِّرت الاحتياطات الجديدة لبترول المملكة العربيّة السعوديّة مؤخّراً بـ 170 مليار برميل......
وبعد:
فإنّ استكشاف النظريّة الاقتصاديّة الإسلاميّة، وتحديد المشكلة الاقتصاديّة في المجتمع الإسلامي الرَّاهن من قبل الإمام الصدر، يَكشف لنا وبوضوح عن مدى ارتفاع السيّد الصدر إلى مستوى مسؤوليّته كفقيه قائد، حمل هموم الأمّة وتَحسَّس آلامها، وشاركها في آمالها وتطلُّعاتها إلى المستقبل الأفضل.
وإنّ كتابه (اقتصادنا) كان النقلة الموفَّقة في تطوير التأليف الفقهي الإسلامي، من الاقتصار على الفقه العامّ إلى تناول الموضوعات الأخرى التي تُعَدّ من قضايا الساعة، التي تضع المسلمين بين أن يكونوا أو لا يكونوا.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد