السيّد موسى الصّدر
تحت هذا العنوان، نناقش ما ملأ كتب المستشرقين والكثيرين من الباحثين الجدد، حيث أكدوا أن الإسلام أخذ الكثير الكثير من عقائد الأديان السماوية الأخرى التي كانت شائعة في أوساط العالم العربي، حين كانت معبرًا لرحلات النبي محمد التجارية قبل ظهور الإسلام. وتأثر الإسلام كذلك بالأفكار والعادات الوثنية السائدة في الجزيرة وعند الفرس والروم، الذين كانوا على اتصال تجاري وسياسي مع العرب في مكّة، والعادات السومرية أو الصابئية أثّرت في العبادات والسير الإسلامية. وأفضّل ألّا أنقل نصوص ما قالوا، حذرًا من إطالة الكلام.
رأي الإسلام في الأديان
وقبل أن ندرس مدى صحة هذا الكلام، يجب أن نلاحظ منطق الإسلام حول الأديان السماوية. فالقرآن يعلن أن رسالة محمد هي العقد الأخير من سلسلة الأديان الإلهيّة، وأن محمدًا هو خاتم الأنبياء، مؤمن بهم ومصدّق بأنهم رسل ربه.
﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ﴾[الأحقاف: 9]، ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾[البقرة: 285].
والقرآن يؤكّد أيضًا أن دين الله واحد ويسمّيه الإسلام، ويعتبر أنّ جميع الأنبياء كانوا يبشّرون به، وقد جعل الله لكلّ منهم شرعة ومنهاجًا.
﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشّورى: 13].
وفي كثير من الآيات القرآنيّة، نجد القرآن ينقل عقائد وأحكامًا وقصصًا تربويّة عن الرسالات السماوية ويعتمد عليها. إذا لاحظنا هذا المنطق، فلا نجد أيّة غرابة أو أيّ مانع من بعض التشابه في العقائد والأحكام والأخلاق الإسلامية مع الأديان السماوية الأخرى.
الطابع المميَّز للإسلام
ولكننا نقول، إن الإسلام مع ذلك له طابع خاصّ في جميع حقوله وتعاليمه، يعطيه ذاتية خاصة، ويميّزه عما عداه من الأديان ومن العقائد الأخرى.
والباحث في مختلف حقول الإسلام، يمكنه أن يكتشف هذا الطابع بوضوح، هذا الطابع الذي يعبّر عنه بالتّوحيد، فيسمّي الإسلام بـ "دين التوحيد".
فكلمة الإسلام، حسب المصطلح القرآنيّ، هو التسليم لله رب العالمين الذي ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾[آل عمران: 83].
فالإسلام إذًا هو الانضمام والانخراط في سلك جميع من في السماوات والأرض، والاتحاد معهم في المبدأ والسّير والمرجع أزليًّا أبديًّا.
والإسلام أيضًا حسب التّفسير القرآنيّ، هو السجود الإرادي من الإنسان، وتسبيحه وصلاته والتحاقه بذلك بركب الكائنات الواحد، الذي هو بمجموع أجزائه ساجد ومسبّح ومصلّ لله الواحد في محراب الكون الواحد.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ...﴾[الحجّ: 18].
﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[التّغابن: 1].
﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ...﴾[الرّعد: 13]، ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ...﴾[الإسراء: 44].
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ...﴾[النّور: 41].
والمجتمع كالجسد الواحد، في رأي الإسلام، "إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحمّى" (حديث شريف). والإنسان، أيضًا في رأي الإسلام، موجود واحد بجسمه وروحه وحدة متكاملة متفاعلة.
وفي حقل العقيدة والإيمان، أن الله ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾[الحديد: 3] والمبدأ والمنتهى ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾[البقرة: 156].
والغاية في السّير والعبادة والجهاد هو الله الواحد ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ...﴾[البيّنة: 5]، ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله﴾[الأنفال: 39].
وفي الأنظمة الاجتماعيّة والماليّة والمدنيّة والأخلاقيّة، نجد محاولات واضحة لجعلها على قاعدة واحدة تقرّب بين الأفراد، حتى تجعل من كلّ واحد بعضًا من الكلّ، لا فردًا من الكليّ، على حدّ التعبير المنطقي.
وقد عبَّر القرآن عن الأموال والتعهّدات والقوى المادية والمعنوية للأفراد المختلفة أنها "لكم"، فأضافها إلى المجموع، تكريسًا لهذه التّربية، وتأكيدًا لهذه القاعدة.
وتأثّر الفنّ الإسلامي بهذا الطابع المميَّز، فأصبح طابعه الانحناء الذي يشكّل خطًّا واحدًا على اختلاف أشكاله وأنواعه (Arabesque).
وبكلمة موجزة، إنّ الطابع المميَّز للإسلام هو الوحدة في الإيمان والتشريع والفن والتفسيرات. فلنعد الآن إلى ذكر بعض التفاصيل، وخصوصاً حول ما ورد في عبارات الأستاذ "ماسيه"، لكي نرى الأصالة الذاتيّة بوضوح أكثر.
الله:
فالله هو الذّات الواحد الأحد، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى: 11]، ﴿لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾[طه: 8]، والأمثال العليا والصفات الكمالية كلّها، يتعالى عن كلّ نقص وحاجة، فهو الصمد ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾[الإخلاص: 3]، مجرّد من الانتساب الخاصّ إلى كلّ شيء أو إلى كلّ فرد أو إلى كلّ ظاهرة. فالعالم بأجمعه، والبشر بجميع أفراده، والأحداث كلّها أمامه سواء، هو الخالق والمستمرّ في خلقه، ولا وجود ولا بقاء للموجودات دون إرادته ودون تصرّفه، وهو عالم الغيب والشّهادة، لا يغرب عنه مثقال ذرّة.
ويرى الباحث أنّ هذا الكمال المطلق الذي يتجلّى في تفسير الله، يعكس على الخلق جوانب تربوية عديدة، ويبعده عن مجرّد فكرة تجريدية وصورة قلبية أو طقوس مذهبية.
فالتعمق في التجرّد، والابتعاد عن الشبه، والتعالي عن أيّ ربط خاصّ بشيء، ينزع صفة القداسة الذاتيّة عن كلّ شيء، ويحرّر الإنسان من أيّ قيد عقلي أو عملي أو عاطفي أو اجتماعي، فيجعل منه، وهو عبد لله، الحرّ المنطلق في جميع شؤون الحياة، لا يقف أمامه مانع، وينعكس الكمال الإلهيّ على الكون كلّه، وعلى الإنسان بالذّات، فيرى الكون والإنسان في أحسن صورة وأكمل تقويم وأدقّ تنظيم.
والإحاطة القيومية، على حدّ التعبير القرآني، تربط بين التجرّد المطلق الإلهي، وبين أن يكون الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وأن تكون ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ﴾[الزّمر: 67] ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: 67]. فالأبصار لا تدركه، ولكنّه يدرك الأبصار.
إنّ الله بعيد عن إدراك العقول "كلّما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه، فهو مخلوق لكم، مردود إليكم" (حديث شريف). ومع ذلك ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾[الحديد: 4]، حيث إنه "مع كلّ شيء لا بالمقارنة، وغير كلّ شيء لا بالمزايلة"[نهج البلاغة].
وهذه الإحاطة، تشعر الإنسان بالاطمئنان بالقوّة، وتزيل عنه الوحشة، وتوحي إليه بالمسؤولية. وهكذا نرى تأثير الفكرة العميقة في الحياة الإنسانيّة وابتعادها عن التجريد. ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾[البقرة: 115] "وقلب المؤمن عرش الرّحمن"[حديث شريف]، و"أنا عند المنكسرة قلوبهم"[حديث شريف]، و"من عاد مريضًا فقد عادني في عرشي"[حديث شريف]، و"المحسن يلمس يد الله حال إحسانه"[حديث شريف].
هكذا يرى الباحث صورة جديدة لله في الإسلام تختلف عن جميع الصّور الأخرى، وإذا كان يمكننا تلخيص الإيمان المسيحي بالله بكلمة موجزة، هي أن "الله هو المحبّة"، يمكن تلخيص الإيمان الإسلامي بالله بأنّ ﴿الله هُوَ الْحَقُّ﴾ بما لكلمة الحقّ من معنى.
ولقد أجاد مترجمو القرآن المتأخّرون، حيث احتفظوا بكلمة الله من دون تعبير آخر مشابه في سائر اللّغات.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع