علمٌ وفكر

اليَقينُ الثّقافيّ، «النَّصُّ المعصوم»، مَنجمُ الحقيقة

الشّيخ حسين كوراني

.. ليس الاستقلالُ الثّقافيّ متاحاً بيُسرٍ، فلا أقلَّ من اليَقين الثّقافيّ.

وهو إذ يَعني استبدال حالة «الاستهلاك الثّقافيّ» السّائدة، بالجَمع مرحليّاً بين الإنتاج، والاستهلاك بقدر الضّرورة، يعني بصورةٍ أدقّ، اليقين بالقدرة على التّوصّل إلى الاكتفاء الذاتيّ الثّقافيّ، فهو وحدَه الطّريق إلى حصر الاستهلاك بدائرة الضّرورة.

إنَّ نظرةً متأنّيةً في حركة الفكر والثّقافة العالميَّين، تُثبِتُ التّجانسَ الهائلَ بين آليّة عمل «منظّمة التّجارة العالميّة» في البُعد الاقتصاديّ، وبين شِبهها في البُعد الثّقافيّ، بل تكشفُ أنَّ حركة الفكر والثّقافة لا تعدو كونها حركةَ إحدى دوائر منظّمة التّجارة.

تُطرح في سوق التّداول «الفكريّ»، «أطروحة» هي، مثلاً، «صراع الحضارات» أو «نهاية التّاريخ» أو «العولَمة»، فإذا بالمثقّفين في أربع رياح الأرض يندفعون بروح «الحداثة» العمياء للعزف بنفس الأوتار، والطَّرب على نفس الإيقاع.

أفَلا نَرْبَأ بالفكر عن هذه الببّغاويّة الرّاطنة، لنقارب ما ينبغي من المستجدّات الثّقافيّة بلغة التّوازن، لا انعدام الوزن؟

ولا تنحصر الدّعوة إلى اليقين الثّقافيّ بشعبٍ أو أمّةٍ، بل هي لكلّ النّاس، كما هو «النّصُّ المعصوم» لهم جميعاً.

مَن وَتَدَ في أرض الحقيقة قدمَه العلميّة، أمكنَه الخروجُ من دوّامة الاستهلاك السّلعيّ المسمّى فكراً وثقافة، ليفكّر بعقله بدلاً من «التّفكير» بغرائزه.

وحجرُ الزّاوية في ذلك والمنطلق، هو القرار الواعي بالموضوعيّة والواقعيّة والعقلانيّة، كما هي، بعيداً عن كلّ تهويمات «حضارة الغرائز»، وتمويهاتها، ومساحيقها، وألاعيبها، وأقنعتها التّنكريّة.

والقمّة المطلع الّتي يستقرّ في متنها أساسُ هذا البناء وحجرُ زاويته، هو النّصُّ المعصوم، مشكاةُ الحقيقة، ومصباحُ الهدى، والتّبيانُ لكلّ شيء.

لا حداثة إلّا من خلال «النّصّ المعصوم»

ولَئِن كان مَن نأى بنفسه عن هذا النّصّ الفريد، مدعوّاً إلى الاقتراب ممّا هو له محبّ، وإن أَعرض عنه، فإنَّ مَن يعتبر نفسه مؤمناً به مدعوٌّ إلى الانسجام مع إيمانه أكثر، وترجمة مقتضيات هذا الإيمان إلى عمل.

وكلُّ عملٍ هباءٌ ما دام يَشي باهتزاز اليقين الثّقافيّ، فضلاً عن أن يوحي به أو يصرِّح.

لا يقينَ بالنّصّ المعصوم، ما دمنا نبحث عن الحداثة خارجَه.

ولا يقينَ به ما دمنا نسمح لكلّ دورةٍ زمنيّةٍ أن تُسقِطَ ركناً منه بادّعاء الظّرفيّة فيه والحداثة فينا، حتّى لا يبقى من الدِّين إلّا رسمُه، ومن الإسلام إلّا اسمُه.

ولا يقينَ ما دمنا نريدُ له أن ينسجمَ مع روح العصر، إلّا إذا قصدنا «حُسْنَ العَرض»، فنطالب على أساسه بأن نُحسن العرضَ باختيار تعبيرٍ آخر.

اليقين الثّقافيّ هو أن نصدرَ من رؤيةٍ فكريّةٍ ثابتةٍ مَرِنةٍ، تريدُ للعصر المقطعيّ المتحوِّل كلّيّاً أن ينسجمَ مع ثقافتها، وتقدّم على ذلك الدّليل.

أمّا أن نبني قاعدتنا الفكريّة على هبوب رياح المتحوّل، بتوهُّم أنّ التّطوّر يستدعيه والواقعيّة تحتِّمه، فهو يعني أنّنا نتعاطى الفكر الموسميّ والثّقافة الاستهلاكيّة.

وها هو الفكر بكلّ تجلّياته المُدَّعى منها والحقيقيّ، فهل يشذّ شيءٌ من الفكرِ فيه عن لُحمة النّصّ المعصوم، أم أنّه يرجع إليه ويتّخذ موقعَه في مداره، بدءاً من المنهج وصولاً إلى أصغر تطبيقٍ عمليٍّ له، حتّى في الميدان التّجريبيّ.

مثل هذا اليقين المعزَّز بالشّواهد والأدلّة – والّتي قد يدّعيها مَن لا يملكها، فلا ادِّعاء - هو الّذي تَمسُّ الحاجة إليه.

إنّ حاجة البشريّة الدّائمة والمتجدِّدة إلى مَن يأوي إلى ركنٍ فكريٍّ شديد، حاجة حياتيّة، تتفرّع عليها كلُّ حوائجها الأخرى، بما فيها العدالة الاجتماعيّة الّتي لا سبيلَ إليها بمعزلٍ عن الرّؤية الفكريّة السّليمة.

ولا يمكن أن يعرف تاريخُ البشريّة كالمعصوم الّذي يشكِّل نصُّه وسيلةَ التّواصل معه، للوصول إلى كنوز الحقائق، الّتي استطاع الإحاطةَ بها، وحرصَ على أن يضعَها في متناول كلّ النّاس.

مع كلّ هذه الفرادة والعَظمة العلميّة نتعاطى في أكثر حالاتنا، وملء إهابنا التّعالي على النّصّ، لــ «نطلّ» عليه من موقع الحداثة، فنحكم على ما يصلح منه لمواكبة العصر وما لا يصلح!! ونظهِّر منه ما قرّرنا السّماحَ له بالتّنفّس، ونَئِد في المهد ما لا يرضاه عقلُ الغرائز المشبوبة، المتحكِّم بحركة الثّقافة العالميّة، ونُحيِّد منه ما هو بينَ بين.

متى نبلغ الرّشد في اليقين الثّقافيّ؟

يستدعي اليقين الثّقافيّ أن ندركَ أنّ كبار العلماء المختصِّين في مختلف ميادين النّصّ المعصوم لم يتعاملوا معه إلّا كما يتعامل التّلميذ الصّغير مع مَن تخرَّج كلُّ أساتذته هو على يدَي تلامذةِ تَلامذته.

وذلك أيضاً أبسط مقتضيات أنّه ﴿..مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ النّمل:6. وأبسط مقتضيات ﴿..وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ الإسراء:85.

إنّ مَن أُوتي قليلاً من العلم، عندما يقفُ على عَتَبة العلمِ كلّه، لا بدّ وأن يستشعر اليقين الثّقافيّ بهذا العلم، وسيَفتح له هذا اليقينُ الطّريقَ إلى كلّ سُبُلِ التّعلُّم المُتاحة.

أمّا أن يقتحم صدرَ مجلسِه ممتحناً متعالياً، ملوّحاً له بلعبة «إلكترونيّة» يرى فيها قمّةَ العلم وذروةَ التّطوّر وغايةَ الحداثة الفعليّة ومؤشِّر الآتي منها، فإنّه لا يعدو كونَه جاهلاً لم ينفعه قليلُ العلم الّذي أُوتيه في اكتشاف الطّريق إلى التّنمية العلميّة.

هل النّصّ المعصوم أكبر منّا جميعاً ومن البشريّة كلّها وكلّ عصورها؟

وهل الوصول إلى الحقائق رَهْنُ الإصغاء إليه والتّتلمذ عليه إذا أمكن؟

وهل تتضاءل كلُّ حداثةٍ أمام خلوده؟

وهل الفرق بينه وبين كلّ نصٍّ كالفرق بين الخالق والمخلوق؟

وهل الشّرط الوحيد للتّعامل معه كذلك هو ثبوتُه وعدم قيام الدّليل القطعيّ على ظرفيّته؟

الإجابة بالإيجاب على ما تقدّم، هي الّتي تمكِّن من بلوغ الرّشد في «اليقين الثّقافيّ».

ويبقى هذا البلوغ غضّاً طريّاً يتدرّج في مراتب الكمال والنّضج المعرفيّ والتّجربة، بتفاوتٍ شديدٍ جدّاً، كما تُحدّثنا تجاربُ تخشعُ في محرابها الأجيال...

ومن موقع «اليقين الثّقافيّ» يمكنُنا أن نرصدَ بجلاءٍ كلَّ المحاولات الهجينة في المنهج، وطريقة التّفكير، ومصبّ الاهتمام، وتسخير الثّقافة لخدمة البلاط، والارتزاق عموماً، والفرق بين ثقافة العقل و«ثقافة» الغريزة، وتسخير الثّقافة لخدمة الأنا بدلاً من أن تكون وسيلة تهذيبٍ لها، واختصار العلم في «شهادة» وتحويله إلى سِلعة، وكلّ مظاهر الاستلاب الثّقافيّ الّتي تتبدّى فيه عُقدة النّقص والدّونيّة أمام الرّطانة بالأجنبيّة، بدءاً من الفرد وصولاً إلى المؤسّسات الثّقافيّة والتّعليميّة الّتي تتخلّى عن كلّ شيء في مقابل المَكننة، وتحديث الظّاهر، وإتقان «النّخبويّة» الّتي تفصل الطّالب عن محيطِه، وتزرع بينهما الشّقاق، مؤسِّسة للمشروع الثّقافيّ الآخر، وموفِّرةً عليه من خلال الوقوع في أَسْرِ منهجيّته أن يخطِّط ويزرع، فالحصادُ، ببَركتِها، في متناوله.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد