علمٌ وفكر

الفيزياء تقود إلى التوحيد (3)

د جاسم العلوي

ظاهرة الضبط الدقيق
بعد أن حقق العلم قفزات نوعية مع بداية القرن العشرين وتوفرت لدى الإنسان معلومات هائلة، بدا جليًّا لدى العلماء وبشكل مدهش إلى أن ثمة شيئًا غير عادي يتعلق بالاحتمال الضعيف للغاية في إمكان تشكل هذا الكون وتطوره بحيث يحوي الحياة الذكية. فقابلية الكون للتشكل والتطور بالطريقة التي يكون بها صالحًا لتشكل الحياة يعتمد على شروط وخصائص دقيقة جدًّا وإن أي انحراف ولو ضئيل، بالقدر الذي سنبينه لاحقًا، لن يؤدي إلى تشكل الكون ولا الحياة. ويمكن أن يقال بثقة كبيرة أن هذا الكون قد ضبط بصورة دقيقة وفائقة من أجل الحياة. ولقد أثارت هذه الظاهرة جدلًا كبيرًا بين العلماء والفلاسفة، ويتركز الجدل في التفسير العلمي – الطبيعي المحتمل والذي يحقق شروط الفرضية العلمية الصحيحة. لكن هذه الدقة التي يقوم عليها الكون والحياة تفرض بجدية بالغة التفسير الماورائي الذي يقف حول هذه الظاهرة المحيرة. فعندما يقول أحد كبار الفيزيائيين شون كارول Sean Caroll بأن هذه الظاهرة هي أفضل برهان يمكن أن يقدمه أنصار الاتجاه التوحيدي فإن هذا يعني أن هذه الظاهرة قد فتحت الباب للتفكير الجدي في فرضية غير طبيعية يحتمل جدًّا أنها تفسرها. لنعرف أولًا هذه الظاهرة ثم نسوق عددًا من الأمثلة عنها حتى يتضح للقارئ الكريم الدقة الكبيرة والمحيرة التي يقوم عليها الكون والحياة.
إن ظاهرة الضبط الدقيق تعني أن الثوابت الأساسية للطبيعة تقع في نطاق ضيق جدًّا لدرجة أن التغير الطفيف لهذه الثوابت لن يؤدي إلى بناء المادة وتطورها لاحقًا من أجل قيام الحياة فيها. وقبل أن نسوق الأمثلة على هذه الظاهرة، يجدر بنا أن نصنع بعض المقدمات العلمية التي تهيء القارئ الكريم لاستيعاب الأمثلة.
كما هو ثابت فإنه يوجد في الطبيعة أربعة قوى رئيسية هي: أولًا قوة الجاذبية وهي القوة المسؤولة عن بقاء الإنسان والأشياء على الأرض وهي المسؤولة عن الإمساك بالكواكب وحركتها في المسارات محددة ودقيقة في الأنظمة الشمسية وهي المسؤولة كذلك عن تكوين المجاميع النجمية الكبرى -المجرات- وحركتها ضمن المجرة الواحدة أو حركتها مع المجرات الأخرى. ثانيًا القوة الكهرومغناطيسية وهي القوة التي تؤثر على الجسيمات الكهربائية وهي المسؤولة عن الإمساك بالإلكترونات وحركتها حول أنوية الذرات. وثالثًا القوة النووية الضعيفة وهي القوة المسؤولة عن النشاط الإشعاعي والانشطار النووي في الجسيمات دون الذرية. ورابعًا القوة النووية القوية وهي القوة التي تربط البروتونات داخل أنوية الذرات.
وعند مقارنة القوة النسبية لهذه القوى الأربع، فإننا سنجد أن قوة الجاذبية هي أضعفهم على الإطلاق. فالقوة النووية القوية أقوى ب 137 مرة من القوة الكهرومغناطيسية، وهي أقوى بمليون مرة من القوة النووية الضعيفة ولكنها أقوى من قوة الجاذبية ب 1038 مرة. وعند قياس قوة هذه القوى للجاذبية سنجد أن القوة النووية الضعيفة أقوى من الجاذبية ب 1032مرة، وإن القوة الكهرومغناطيسية أقوى من الجاذبية ب 1036 مرة، وأما القوة النووية القوية فهي أقوى بـ 1038 مرة.
العالم الفيزيائي مارتن رييز يحدثنا في كتابه الشهير ”فقط ستة أرقام” يشرح من خلال هذه الأرقام ودقتها الكبيرة حالة الكون الحرجة جدًّا التي يرتكز عليها الكون والحياة. إذ أن التغير الطفيف في هذه الأرقام الستة يجعل الكون والحياة فيه مستحيلة. وأحد هذه الأرقام التي يشير إليها رييز في كتابه هو نسبة قوة الكهرومغناطيسية إلى قوة الجاذبية وهو ما على ما ذكرنا يعادل 1036 ويقول لو أن هذا الرقم يحتوي على أصفار أقل بقليل لما تشكل هذا الكون الضخم ولكان لدينا كون صغير بحيث لن تنمو فيه الكائنات الحية بأزيد من الحشرات ولن يكون هناك متسع من الوقت لعملية التطور. ويشير أيضًا إلى نسبة القوة النووية القوية إلى القوة الكهرومغناطيسية وهو كما ذكرنا واحد إلى 137 ويساوي 0.007. وهذا الرقم هو المسؤول عن تماسك أنوية الذرات وعن صنع كل ذرات العناصر الموجودة على الأرض. ولو كان هذا 0.008  بدلًا من 0.007، فإن الاندماج النووي في النجوم بين أنوية ذرات غاز الهيدروجين سيكون سريعًا لدرجة أن الهيدروجين سيستهلك بالكامل في هذه العملية ولن يتوفر لدينا هذا العنصر، وهذا يعني أن النجوم التي تزودنا بالطاقة لن تكون موجودة.
ولو كان هذا الرقم 0.006 بدلًا من 0.007 فإن ذلك سيضعف من القوة النووية، وهذا يمنع من ربط البروتون والنيترون ببعضهما وبالتالي لن تتشكل نواة الديوتيريوم (تتكون نواة الديوتيريوم من بروتون واحد ونيوترون واحد) وعندما لا تتشكل نواة الديوتييوم لن تتكون العناصر الثقيلة التي يتم تصنيعها في الشمس بما في ذلك عنصر الكربون الذي هو العنصر الرئيسي للحياة وعندئذ لن تتكون الحياة على الأرض.

كما أشار مارتن رييز إلى حقيقة اكتشفها العالم فرد هويلي الذي سوف نتحدث عنه بعد قليل وهي إذا تغيرت القوة النووية بمقدار أربعة في المئة فقط (يعني مثلًا ان يكون الرقم 0.00672 بدلا من 0.007 ) سيكون تكون الكربون مستحيلًا في النجوم وستصبح الحياة مستحيلة.

ولما كانت جميع العناصر تتكون في النجوم بما في ذلك عنصر الكربون الذي يحتل أهمية خاصة في تشكل الحياة على الأرض، فإننا سنوجز فيما يلي كيفية تشكل الكربون في النجوم وكيف اكتشف فرد هويلي الضبط الدقيق في تكوينه.

التصنيع النووي في الشمس والضبط الدقيق لأصل الحياة.
إن فرضية الانفجار الكوني هي الأكثر قبولًا في الوسط العلمي. وبعد لحظة الانفجار الكوني العظيم بدأ الكون يتمدد وكلما تمدد قلت درجة حرارته. وفي الفترة الأولى للانفجار وقبل عملية التصنيع النووي التي تتم داخل النجوم، تكونت عناصر الهيدروجين والهليوم والليثيوم في الثلاثة دقائق الأولى، حيث كانت درجة حرارة الكون مناسبة لتكون مثل هذه العناصر. وكل العناصر الأثقل من الليثيوم لا يمكن أن تتكون في تلك الفترة. فعنصر البريليوم الذي عدده الذري أربعة وهو يزيد عن العدد الذري لعنصر الليثيوم بواحد هو إلى حد كبير غير مستقر. فما أن يتشكل حتى ينحل إلى عنصر الليثيوم في زمن قدره 16- 10 من الثانية وهو زمن قصير للغاية. وبالتالي فإن جميع عناصر البريليوم التي تكونت في المرحلة الأولى للانفجار ستتحول إلى عنصر الليثيوم في ظرف زمن قصير جدًّا. وهنا برزت معضلة تشكل الكربون والأوكسجين وبقية العناصر الثقيلة في الكون. ولقد واجة العلماء هذا السؤال المحير، كيف وأين تكون الكربون الذي هو أصل الحياة في هذا الكون؟ إذا أخذنا بالاعتبار العمر القصير جدًّا للبريليوم.

تتكون العناصر في النجوم نتيجة الاندماج النووي بين أنوية الهيدروجين. الاندماج النووي لا يحدث في الظروف العادية بل يحتاج حرارة عالية جدًّا حتى يمكن لهذه الأنوية من التغلب على قوة التنافر الكهربائي بين أنوية العناصر، توفر النجوم التي هي أشبه بفرن نووي كبير هذه الحرارة الكبيرة وتجبرها على الاندماج لتكون أنوية عناصر أثقل منها. وبهذه الطريقة يتم تصنيع أغلب العناصر الموجودة على الأرض. لكن كيف يتخلصوا من معضلة الزمن القصير جدًّا لعنصر البريليوم حتى يمكن أن يتشكل الكربون؟

في عام 1952 اقترح سال بيتر Salpeter أن الكربون يتشكل في العملاق الأكبر وهو نجم كبير أشد لمعانًا من الشمس ويطلق طاقة ضوئية هائلة ويتكون هذا النجم نتيجة اضمحلال غاز الهيدروجين في النجم مع مرور الوزمن حيث تندمج أنوية الهيدروجين مكونة الهيليوم. وعندئذ يكون درجة حرارة مركز النجم إلى 100 مليون درجة كالفين. هذه الدرجة من الحرارة تجعل من تكون البريليوم وثم اندماجه مع الهليوم لتكوين الكربون ممكنًا. حيث معدل تصادم واندماج أنوية الهليوم والبريليوم في مثل هذه الدرجة من الحرارة أكبر من معدل انحلاله.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد