علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

ما هو الدّين؟ وما هي دوافع البحث عنه؟

مفهوم الدّين

كلمة الدّين في اللّغة  بمعنى الطّاعة كما في قوله - تعالى -: ﴿مَا أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ﴾، وتأتي بمعنى الجزاء كما في قوله تعالى-: ﴿مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ﴾ وقوله: ﴿أَرَءَيۡتَ يُكَذِّبُ﴾ أي يوم الجزاء، وفي الاصطلاح معناها: الإيمان بخالق الكون والإنسان، وبالأحكام والوظائف العمليّة الملائمة لهذا الإيمان.

ويتكوّن الدّين بالمعنى الاصطلاحي من ركنين:

1. العقيدة الّتي تُمثّل الأساس والقاعدة بالنّسبة إلى الدّين وتُسمّى (أصول الدين).

2. التّعاليم والأحكام العمليّة المنبثقة من الأسس العقائديّة والملائمة لها وتُسمّى (فروع الدّين).

 

الرؤيّة الكونيّة والأيديولوجيا

إنّ ألفاظ الرّؤية الكونيّة والأيديولوجيّا استُعملت في معان متقاربة، ومن معاني الرّؤية الكونيّة أنّها عبارة عن "مجموعة من المعتقدات والنظريّات الكونيّة المتناسقة حول الكون والإنسان، بل وحول الوجود بصورة عامّة"، ومن معاني الأيديولوجيا أنّها عبارة عن "مجموعة من الآراء الكليّة المتناسقة حول سلوك الإنسان وأفعاله".

وعلى ضوء هذين المعنيين يمكن أنْ يُعتبر النّظام العقائديّ لكلّ دين هو رؤيته الشّاملة، ونظام أحكامه العمليّة الكليّة أيديولوجيّته، وبذلك يمكن تطبيقهما على أصول الدين وفروعه، ولكن يلزم التأكيد على أنّ مصطلح الأيديولوجيا لا يشمل الأحكام الجزئيّة، كما أنّ مصطلح الرؤيّة الكونيّة لا يشمل المعتقدات الجزئيّة.

وقد تستعمل كلمة الأيديولوجيا أحياناً في معنى عامّ بحيث يشمل الرّؤية الكونيّة والأحكام العمليّة معاً.

 

الرّؤية الكونيّة الإلهيّة والمادّيّة

تنتشر بين النّاس الكثير من أنواع الرّؤى الكونيّة، ولكن يمكن تقسيمها جميعاً على أساس الإيمان بالغيب وإنكاره إلى قسمين جامعين: الرّؤية الكونيّة الإلهيّة، والرّؤية الكونيّة المادّيّة.

وقد أُطلق على مَن يتبنّى الرّؤية الكونيّة المادّيّة في العصور السّابقة اسم "الطّبيعيّ" و"الدّهريّ" وأحياناً "الزِّنديق" و"الملحد"، وأمّا في عصرنا فيُطلق عليه "المادّي".

وعليه، فإنّ مجال الرؤيّة الكونيّة لا يتحدّد بحدود المعتقدات الدينيّة، لأنّ كلمة "الرؤيّة الكونيّة" شاملة للمعتقدات الإلحاديّة والماديّة أيضاً.

 

الأديان السّماويّة وأصولها

بحسب المستفاد من المصادر الإسلاميّة فإنّ الدّين قد لازَمَ وجود الإنسان على الأرض، فكان الإنسان الأوّل وهو آدم عليها السلام نبيّاً وداعياً للتّوحيد، وأمّا سبب ظهور الشِّرك وتطرّق البدع إلى الأديان فهو الجهل واتّباع الأهواء والمطامع. وتشترك الأديان التّوحيديّة في ثلاثة أصول كليّة:

1. الإيمان باللَّه - جلّ وعلا - الواحد.

2. الإيمان بالحياة الأبديّة في عالم الآخرة، ونيل الجزاء على العمل إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر.

3. الإيمان ببعثة الأنبياء والرّسل المبعوثين من اللَّه تعالى- لهداية الناس لما فيه كمالهم النهائي، وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

وهذه الأصول الثلاثة تُمثّل إجابات حاسمة عن الأسئلة الرّئيسة الّتي يواجهها كلّ إنسان في صميم ذاته وفطرته: مَن هو خالق الوجود ومبدأه؟ ما هو مصير الحياة؟ ما هو السّبيل لمعرفة النّظام الأفضل للحياة؟

وعليه، يُعتبر الإيمان بوجود اللَّه - سبحانه - الواحد "الأصل الأوّل" من أصول  الدّين الإسلاميّ، والإيمان بأصل النبوّة والاعتقاد بنبوّة خاتم النبيّين محمد صلى الله عليه وآله وسلم "الأصل الثّاني"، والإيمان بالمعاد والحياة بعد الموت "الأصل الثّالث".

 

أصول الدّين وأصول المذهب

تقدّم أنّ أصول الإسلام الأساس ثلاثة: التّوحيد، نبوّة النّبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، المعاد. وهذه الأصول الثلاثة تُسمّى أصول الدّين، ويخرج المنكر لأيّ واحد منها من ملّة المسلمين.

وثمّة معتقدات أخرى نشأت من تحليل هذه المعتقدات وتجزئتها، أو أنّها من لواحقها، يمكن أن نعتبرها من العقائد الأصليّة أيضاً ولكن وفق اصطلاح خاصّ، فمثلاً يمكن أن نعتبر الإيمان بوجود اللَّه -سبحانه- والإيمان بتوحيده والإيمان بنبوّة نبيّنا من أصول الدّين الإسلاميّ، كما يمكن اعتبار العدل -وهو من المعتقدات المتفرّعة من التّوحيد- أصلاً مستقلّاً، والإمامة -وهي من لواحق النّبوّة- أصلاً آخر -كما فعل علماء الشيعة-.

وفي الواقع فإنّ استعمال كلمة "الأصل" في مثل هذه المعتقدات خاضع للاعتبار والاصطلاح.

ويمكن أن نُطلق "أصول الدّين" على العقائد المشتركة بين جميع الأديان السّماويّة دون تخصيصه بدين معيّن، أمثال الأصول الثّلاثة (التّوحيد، النّبوّة العامّة، المعاد)، أمّا لو أضفنا إليها بعض الأصول الأخرى المختصّة بدين ما فنطلق عليها "أصول الدّين الخاصّ" كالإسلاميّ مثلاً، وكذلك إذا أضفنا إليها بعض المعتقدات المختصّة بمذهب معيّن أو فرقة معيّنة نُطلق عليها "أصول الدّين والمذهب".

 

البحث عن الدين

إنّ كلّ إنسان عاقل لا يُقْدِمُ على عمل إلّا لغاية تُشكّل الدّافع والمحرّك له باتجاه الفعل - وهذا إدراك وجدانيّ - فعندما يسعى الإنسان مثلاً لتحصيل الطّعام فدافعه الجوع فعلاً أو توقُّع حصوله، وقد أودع اللَّه - تعالى - في الإنسان جملة من الدّوافع الفطريّة -سواء كانت نفسيّة أو قلبيّة أو عقليّة - تُشكّل الأساس لحركته في الحياة الدنيا، وهنا يأتي سؤال وهو: ما هي الدّوافع الكامنة في الإنسان والّتي يجب أن تُحرّكه للبحث عن الدّين؟ أي للبحث عن وجود اللَّه - سبحانه - وما يتعلّق به وما يترتّب عليه من أسئلة أخرى ينبغي السّعي لتحصيل الإجابة عنها.

والجواب: إنّ اللَّه - تعالى - قد أودع في داخل الإنسان جملة من الدّوافع العامّة الّتي تدفعه للبحث عن مجموعة مهمّة من المسائل بما فيها البحث عن الدّين، بالإضافة لدافع خاصّ بالبحث عن الدّين.

 

الدّوافع العامّة

الأوّل: غريزة حبّ الاستطلاع

من الخصائص النفسيّة الإنسانيّة، وجود دافع فطريّ لديه لمعرفة الحقائق والاطّلاع على الواقعيّات، وهو المعبّر عنه "بحبّ الاستطلاع" الذي يدفع الإنسان للتفكير والتأمُّل وطرح التّساؤلات، في محاولةٍ للبحث عن الحقائق بما فيها الدّين الحقّ.

ومن هذه التّساؤلات: هل هناك وجود لموجود غير محسوس وغيبي غير مادّيّ؟ وإذا كان له وجود فهل هناك علاقة بين عالم الغيب والعالم المادّيّ المحسوس؟ وإذا كانت هناك علاقة، فهل هناك موجود غير محسوس خالق للعالم المادّيّ؟ وهل ينحصر وجود الإنسان بهذا البدن المادّيّ؟ وهل تتحدّد حياته بهذه الحياة الدّنيويّة؟ أم أنّ هناك حياة أخرى؟ وإذا كانت هناك حياة أخرى، فهل هناك علاقة وارتباط بين الحياة الدّنيا والحياة الآخرة؟ وإذا وجدت العلاقة، فما هي الظّواهر الدّنيويّة التي لها تأثير في الأمور الأخرويّة؟ وما هو السّبيل لمعرفة النّظام الأكمل للحياة، النّظام الّذي يكفل سعادة الإنسان في الدّنيا والآخرة؟ وما هي طبيعة هذا النّظام؟

إذاً فغريزة حبّ الاستطلاع تُمثّل الدّافع الأوّل الّذي يدفع الإنسان للبحث عن إجابات لهذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة المرتبطة بالمسائل والمعارف الدينية الأساسية الحقّة.

الثّاني: غريزة جلب المنفعة والأمن من الضّرر

إنّ إرضاء الحاجات الطّبيعيّة للإنسان وإشباع الدّوافع الفطريّة لديه لا يتحقّق إلّا من خلال الإلمام ببعض المعارف الخاصّة، الّتي تجلب له النّفع وتدفع عنه الضّرر، فإذا أمكن للمعارف الدينية خاصّة أن تُساعد الإنسان على إشباع حاجاته، وتوفير المنافع الّتي يُنشدها، والأمن من المضارّ والأخطار الّتي تتهدّده، فسيكون الدّين من المجالات الّتي يُنشدها الإنسان بفطرته، وبذلك تكون غريزة البحث عن المنفعة والأمن من الضّرر والخطر دافعاً آخر للبحث عن الدّين، خاصّة بعدما سمع بوجود أشخاص يدعون إلى اللَّه - سبحانه - وما يترتّب على الإيمان به من منافع وسعادة أبديّة، وضرر عظيم وعقاب دائم على فرض ترك البحث عنه والإيمان به، والوقوع في مخالفة أوامره ونواهيه.

شبهة وجوابها:

ربما يتشبّث البعض للتهرّب من التفكير والبحث عن الدين بهذه الشبهة أنّ الدّافع للبحث عن شيء ما إنّما يكون محرّكاً وفاعلاً فيما إذا كان احتمال الوصول إلى نتيجة قويّاً وعالياً، وبما أنّ احتمال الوصول إلى نتيجة في البحث عن الديّن ضعيف جدّاً، فلا يكون مثل هذا الاحتمال محرّكاً، بل لا يُعبأ به ولا يُلتفت إليه عند العقلاء، وعليه فمن الأفضل بذل الجهد في البحث عن مسائل تكون درجة الاحتمال فيها قويّة ومؤثّرة، كما هو الحال في المسائل العلميّة المعتمدة على التّجربة.

 

والجواب: يقع من جهتين:

أوّلاً: إنّ الأمل في معالجة المسائل الدّينيّة واحتمالها ليس ضعيفاً كما توهّم البعض، بل إنّ الأمل فيها ليس بأقلّ من المسائل التّجريبيّة، خاصّة وأنّ بعض المسائل العلميّة التجريبيّة تحتاج إلى سنوات من الجهود المضنية، مع أنّ احتمال الوصول إلى نتيجة فيها ضعيف جدّاً، ومع ذلك تُبذل الجهود دون تردّد ولا ملل، وهذا يفتح الباب للجهة الثّانية من الجواب.

ثانياً: إنّ الدّافع والمحرّك للبحث عن أيّ شيء لا يعتمد فقط على درجة الاحتمال قوّةً وضعفاً فقط، بل لا بدّ من مراعاة درجة المحتمل أيضاً، وذلك، لأنّ المحتمَل يُزوِّد الاحتمال بقوّة دفعٍ وتحريكٍ باتّجاه البحث، وهذا ما تجده في كثير من المسائل والقضايا، فلو احتملت قويّاً لدرجة 80% مثلاً أنّك أضعت مبلغاً بسيطاً من المال لا يُعتدّ به أثناء سيرك ليلاً مثلاً، فإنّك لن تبحث عنه، وما ذلك إلّا لضعف المحتمَل مع أنّ الاحتمال كان قويّاً وكبيراً، بخلاف ما لو احتملت 20% أنّك فقدت مبلغاً كبيراً من المال أثناء سيرك ليلاً، ففي مثل هذه الحال ستجد في نفسك دافعاً قويّاً للبحث عنه، وستبدأ بالبحث مباشرة، وما ذلك إلّا لأنّ المحتمَل كان قويّاً وكبيراً مهما كانت درجة الاحتمال ضعيفة وبسيطة.

والمحصَّل: أنّ لكلٍّ من الاحتمال والمحتمَل دوره في التحريك والدفع نحو البحث، وقصر النظر على قيمة الاحتمال فقط مخالف للعقل والعقلاء.

وبما أنّ المنفعة المحتملة المترتّبة على البحث عن الدّين لا حدّ لها وهي كبيرة وقويّة جدّاً، بحيث تكفي لدفع الإنسان وتحريكه للبحث عنها، فيجب على العاقل في مثل هذه الحال أنْ يبحث عن مسائل الدّين ويبذل الجهد في سبيل تحصيلها، ونظراً لأهمّيَّتها التي تفوق بدرجات قيمة المحتَمل في أيّ مسألة علميّة تجريبيّة.

هذا كلّه إذا سلّمنا أنّ درجة الاحتمال ضعيفة، فكيف والحال أنّ هذا الاحتمال قويّ أيضاً.

 

الثّالث: لزوم شكر المنعم

وهذا الدّافع هو من الدّوافع العقليّة الفطريّة، حيث إنّ النِّعم الّتي تواكب الحياة الإنسانيّة كلّها والّتي لا يسع أحداً إنكارها هي من الكثرة بحيث لا تبلغ حدّ الإحصاء، ومن جانب آخر فإنّ العقل الفطريّ يحكم بلزوم شكر المنعم على نعمه ﴿هَلۡ جَزَآءُ ٱلۡإِحۡسَٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَٰنُ﴾، ولا يتحقّق شكر المنعم الحقيقيّ - وهو الله تعالى - إلّا بمعرفته، ولا تتحقّق المعرفة إلّا بالبحث عنه والاستدلال على وجوده - تعالى - وعليه يجب البحث عن الدّين، لأنّه مقدّمة للشُّكر الواجب ومقدّمة الواجب واجبة بحكم العقل.

الرابع: غريزة حبّ الكمال

من جملة المسائل الّتي ينبغي أن تُشكّل حافزاً ودافعاً للإنسان للبحث عن الدين، هو ما فُطرت عليه النفس الإنسانيّة، وهو "حبّ الكمال"، فإنّ الإنسان موجود باحث عن الكمال بفطرته، ولكي لا ينحرف هذا الدافع عن مساره الصحيح، كان لا بدّ من معرفة "أنّ الكمال الإنسانيّ لا يتحقّق إلّا من خلال اختيار الإنسان لأفعاله"، هذا الاختيار المعتمد على حُكم العقل وتوجيهاته، لأنّ الكمالات المختصّة بالإنسان هي الّتي تتمثّل بكمالاته الروحيّة، والّتي يتوصّل إليها من خلال الإرادة الواعية، والاختيار المنبثق من حكم العقل.

إلّا أنّ العقل عاجز عن تقييم الأفعال وتقويمها ما لم يتوصّل إلى نظام خُلُقي وقيمي نحاكم الأفعال على أساسه، وهذا لا يتحقّق إلّا برؤية صحيحة للكون والحياة وعلاج مسائلها ومواضيعها وإنّما يتم ذلك من خلال الدين.

الخامس: فطريّة الشّعور الدّيني

إنّ بعض علماء النفس يرون أنّ التديّن وعبادة اللَّه - سبحانه - ظاهرة ثابتة - بشكل من الأشكال - في كلّ الأجيال البشريّة على امتداد التّاريخ، وهذا الثبات الدّائم لهذه الظاهرة دليل على فطريّتها، وقد صرّح القرآن الكريم بهذا الدّافع بقوله تعالى-: ﴿فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ﴾.

 

تنبيه: حول شموليّة الدافع الفطري

لا بدّ من الإشارة إلى أنّه لا يلزم من القول بشموليّة الدّافع الفطريّ أنّ يوجد دائماً بشكل حيّ ويقظ في جميع الأفراد، بحيث يدفع الإنسان بطريقة شعوريّة وواعية لأهدافه المنشودة، بل من الممكن أنْ يختفي هذا الشّعور الفطريّ في أعماق الفرد نتيجة العوامل المحيطة والتّربية غير السّليمة، كما قد تنحرف الميول والغرائز عن مسارها الطبيعي للسّبب نفسه.

وعلى ضوء ذلك، فإنّ للبحث عن الدّين دافعه الفطريّ المستقلّ، ولا نحتاج في مقام إثبات ضرورته إلى دليل.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد