علمٌ وفكر

العقيدة بالمهديّة

الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني

 

لا ريب أن العقيدة بالمهدية عقيدة إسلامية خالصة نبعت من الكتاب والسنة، واتفق المسلمون سلفاً وخلفاً عليها، وحكم بتواتر أحاديثها جمع من الأكابر والأفذاذ.

فهي فكرة إسلامية مبنية على أقوى الأدلة النقلية والعقلية، ويؤيدها التاريخ والشواهد الكثيرة، ولم يبلغنا إنكارها والشك فيها من أحد من المسلمين، خواصهم وعوامهم، إلا بعض الناشئة المتأثرين بدعايات الغربيين، والساقطين في شبكات الاستعمار، والذين لا يفسرون الثقافة إلا بإنكار النصوص أو تأويلها بما يوافق أهواء الملحدين والمادِّيين، وقد حاولوا بذلك فتح بابٍ لو فُتحت ـ ولا وفَّقهم اللّه له ـ لسقط الاعتماد على السُّنة، والاستناد إليها، وبظواهرها، وظواهر الكتاب، ووقعت الشريعة والدعوة المحمَّدية في معرض التغيير والتحريف حسب ما يريده أهل البدع و الأهواء.

 

وإذا أمكن إنكار مثل هذه الأحاديث التي صرَّح رجال علم الحديث، ومهرة هذا الفن، من المتقدمين والمعاصرين بتواترها، فما ظنُّك بغيرها من الأحاديث المستفيضة والآحاد؟!

وقد نبَّه على خطر هؤلاء الخارجين على الكتاب والسنة، وجرأتهم على الله ورسوله، جماعة من علماء الإسلام، وألفوا في تفنيد آرائهم الكتب والمقالات، ولا أرى وراء ذلك إلا أيدي الذين يريدون تضعيف التزام المسلمين وتمسُّكهم بنصوص الشريعة، فما يمنعهم عن النفوذ في بلاد المسلمين والسلطة عليهم إلا تمسك المسلمين بالكتاب والسُّنة، ولم يفتح لهم باب ذلك إلا بعد ضعف هذا الالتزام والغفلة عنه. عصمنا اللّه تعالى من فتن أهل الزيغ والأهواء، وأذناب الاستعمار.

 

ومما يُضحك الثكلى أن هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم كثيراً ما استندوا في تضعيف هذه الأحاديث تارة بأن هذه العقيدة ليست في أصلها من عقائد أهل السنة القدماء، ولم يقع لها ذكر بين الصحابة في القرن الأول ولا بين التابعين، وأخرى بأنها سبّبت المنازعات والثورات على الحكومات، والدعايات السياسية، وثالثة ببعض اختلافات وقع في بعض أحاديثها مع البعض الآخر وهذا من غرائب ما تشبث به في رد السُّنة النبوية.

أما أولاً: فأيُّ دليل أقوى على وقوع ذكرها بين الصحابة والتابعين، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) هو المصدر الأول لبث هذه العقيدة بين المسلمين، من هذه الأحاديث المتواترة، ومن إجماع المسلمين، ومن أنهم لم يردوا دعوى أحد من مدعي المهدوية بإنكار صحة خروج المهدي (عليه السلام)، بل ردوهم بفقدانهم الصفات والعلائم المذكورة له، كما تشهد بذلك حكاية محمد بن عجلان مع جعفر بن سليمان، وما قاله فقهاء أهل المدينة وأشرافهم (1).

 

فإذا لم تكن هذه الأحاديث مع كثرتها وتواترها، واتفاق المسلمين على مضمونها، دليلاً، فبأيِّ دليل يُستند على صحِّة نسبة أية عقيدة إسلامية إلى الصحابة، وإلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله)؟!

وثانيًا: فلعلَّك لا تجد عقيدة ولا أصلاً لم تقع حولها المنازعات، والمخاصمات وقد وقعت حول الأُلوهية وحول النبوات المنازعات والمخاصمات أكثر من المهدية بكثير، كما وقع النزاع بين الأشاعرة وغيرهم، وبين أتباع المذاهب من الشوافع والأحناف والحنابلة والمالكية وغيرهم منازعات وحروب كثيرة، بل يمكن أن يقال: إن العدل والأمن، وغيرهما من المفاهيم التي اتفق أبناء الإنسان كلهم على لزومها وقعت حولها وحول تحققها، ودفع من اتخذها وسيلة لمقاصدها السياسية، معارك دامية. ولعلَّك لا تجد ضحايا موضوع أكثر من ضحايا البشرية باسم إقامة الحق ورعاية العدل والقسط، والحماية عن حرية الإنسان وحقوقه.

 

والحاصل أن لُبس الحق بالباطل، وعرض الباطل مقام الحق، وإن كان يصدر من أهل الباطل والمبطلين بكثير، غير أنه لا يضرُّ الحق، واللّه تعالى يقول: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ (2).

هذا مضافاً إلى أن قبول دعوة الدجاجلة المدَّعين للمهدوية كثيراً ما يقع من أجل عدم الاهتداء بعلامات المهديِّ (عليه السلام) ونسبه وخصائصه المصرحة بها في الأحاديث، وإلا ليس فيه موضع للإضلال والتضليل، ومن واجب العلماء أن يبينوا هذه العقيدة، وما تهدف إليه، وما به يعرف المهدي من الدجاجلة المدَّعين للمهدوية وفق الروايات المأثورة.

 

وثالثًا: أن من الفروق بين المتواتر وغيره، أن في المتواتر اللفظي التفصيلي يحصل القطع واليقين بصدور حديث معين بعين ألفاظ متنه، وفيه لا يمكن الاختلاف والتعارض إلا مع متواتر آخر، والمتبع فيه علاج التعارض بالتوفيق والجمع بينهما بحمل العام على الخاص، أو المطلق على المقيد، أو الظاهر على الأظهر، وغير ذلك، وإلا فيتساقط ظاهر كل منهما من صلاحية الاستناد به، وفي المتواتر الإجمالي لا عبرة بالاختلاف وتعارض متون الأحاديث التي عُلم إجمالاً بصدور واحد منها بلفظه، بل يؤخذ ما هو الأخصُّ مضموناً من الجميع.

وفي المتواتر المعنوي ـ وهو ما اتفق عليه عدة أحاديث يحصل القطع بها عليه وإن لم يكن بينها مقطوع الصدور بلفظه ومتنه، مثل ما جاء في جود حاتم من الحكايات الكثيرة، فإن من جميعها يحصل القطع بما هو القدر المشترك والمضمون العام بين الجميع، وهو وجود حاتم في زمان من الأزمنة، وجُودِهِ ـ يؤخذ بالقدر المشترك والمضمون المتفق عليه بين الأحاديث.

 

فعليه، لا يضرُّ بالتواتر اختلاف المتون والمضامين، بل في غير المتواتر أيضاً من الأحاديث لا يضرُّ الاختلاف بصحة ما هو الصحيح بين المتعارضين، وما هو أقوى بحسب السُّنة أو المتن أو الشواهد والمتابعات، وهذه أمور لا يعرفها إلا الحاذق في فن الحديث، وإلا فلو أمكن ترك الأحاديث بمجرد وجود تعارض بينها، لزم ترك جلّها لولا كلها، ولتغيَّر وجه الشريعة في أكثر الأحكام الفرعية، لأنه قلَّ موضوع في العقائد والأحكام والتاريخ وتفسير القرآن الكريم وغيرها يكون أحاديثه سليمة عن التعارض، ولو بالعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد.

 

فالمتَّبَع في علاج هذه التعارضات التي لا يخلو كلام أهل المحاورة عنها، وفي تشخيص الحديث الصحيح عن السقيم، والقوي عن الضعيف، والمعتبر والحجة عن غير المعتبر، هي القواعد المعتبرة العقلانية، والرجوع إلى مهرة الفن، ورَدُّ بعض الأحاديث إلى البعض، والجمع والتوفيق بينها في موارد إمكان الجمع والأخذ بما هو أقوى سنداً، أو متناً، أو أوفق بالكتاب والسنّة الثابتة وغير ذلك، لا ردها والإعراض عنها.

والأخبار التي وردت في المهدية كلُّها تلاحظ على ضوء هذه القواعد، فيؤخذ بمتواترها، ويعامل مع آحادها معاملة غيرها من أخبار الآحاد، فيقوى بعضها ببعض، ويفسِّر بعضها بعضًا، ويؤخذ بالضعيف منها أيضاً بالشواهد والمتابعات، وغيرها من المؤيدات المعتبرة، فلا يَرُدُّ مثل هذه الأحاديث إلا الجاهل بفن الحديث، والمثقف المعادي للسُّنّة، والمتأثر بالدعايات الباطلة وأضاليل المستعمرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. راجع : البرهان في علامات مهديِّ آخر الزمان : 174 .

2. القرآن الكريم : سورة الأنبياء ( 21 ) ، الآية : 18 ، الصفحة : 323 .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد