يُعتبر المصطلح في العرف الصوفي مفتاح رمز يشير إلى حقيقة من الحقائق، وبابًا يلج منه الصوفي إلى المعنى. بل إن المصطلح الصوفي أحيانًا يكتسب شأنية الرّتبة التي يصل إليها الصوفي أو التي يبتغيها، كما أنه يشكّل منهاج ومنظومة المعرفة الصوفية النظرية.
هذا، وللمصطلح الصوفي، بالإضافة إلى هذه الأمور، سمة النضوح من كأس التجربة السلوكية والروحية التي يحياها الصوفي أو العارف في حاق ذاته وخاصّية نفسه. لذا فإن المصطلح وإن حمل دلالات مشتركة عند الخائضين فيه، إلا أنه يحتضن روحًا خاصة عند كلٍّ منهم تختلف في مذاقاتها ومشاربها بعدد أنفاس الخلائق التي تتجه كلها نحو مقصد واحد هو المطلق، وبهمٍّ واحد هو تحقيق مقامات القرب من الله سبحانه…
وبمثل هذا الحراك المتوتر يكون قوام المرء بجهاده في الله حتى يمكِّنه المولى من نفسه فيُسمّى وليًّا ليترقّى بعد أن خرج من أصر قيد الظلمات إلى منابع نور الرحمة فيتلقّى جذبة الرفعة إذا اختاره المولى وليًّا بعد أن كان وليًّا.. إلا أن مكانته وولايته الثانية هنا إنما تكون بهدايته إلى سبيل أو سبل إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربه.
وبمعرض البحث في العلاقة بين الولاية- التي ستكون مورد اشتغالنا كمصطلح مركزي – وبين التمكين، الذي يمكن لنا تقسيمه إلى مستويين: أنفسي ذاتي يجاهد فيه المرء نفسه حتى يمكّنه الله منها، وتكون فيه شهادته هي عين انتصاره، وآخر خلائقي خارجي يجاهد فيه المرء لصون وإعلاء كلمة الله حتى يمكّنه الله من إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة.
فإنّ من المفيد أن نطل على كيفية تقديم الكتب الاصطلاحية لمفردة الولاية والولي، لما لهذه الكتب من وظيفةٍ جمعت ما تناقله أهل التصوف من ألفاظ وسعت لتوضيحها. خاصّة أن هذه المصطلحات لها خاصّية الاقتصار على أهلها فقط، وقد سمحت مثل هذه الكتب بتبيان بعض من المقاصد الصوفية للناس، وقد تحدّث بعضهم عن ذلك إذ قال: “فالاصطلاحات رموز وضعها أهل العلم الراسخون دلالة على الله المستخفي. فالدرب صعبة السلوك ولا بدّ لها من تهيئة وعزم وإرادة وصحة نية. وتقديم الحقيقة على كف مبسوطة مدّعاة للعبث من قبل العابثين، لذلك صينت في قوالب من رموز يفهمها أهل العلم ويعيها العارفون. وسئل ابن عطاء الله ما بالكم أيها المتصوّفة قد اشتققتم ألفاظًا أغربتم بها على السامعين، وخرجتم عن اللسان المعتاد، هل هذا إلا طلب التمويه أو ستر لعوار المذهب؟ فقال ابن عطاء: ما فعلنا ذلك إلا لغيرتنا عليه، لعزته علينا، كيلا يشر بها غير طائفتنا”[1].
فهذا النص واضح في أن نحت المصطلح الصوفي كان بقصد ستر المعنى عن غير أهله ممن يفهم إشاراته وقد أخذت هذه الكتب الاصطلاحية دور المبيِّن لمعنى المصطلحات.. لكن يبقى السؤال أن هذه الكتب هل بينت المفهوم أم الحقيقة من معنى المصطلح؟
وهل لتبيان المفهوم من مدخلية إلى حقيقة المعنى أم أنهما على تخاصم وعدم اتفاق؟ ذلك أن التجربة الحيّة عند الصوفي هي سبيله نحو المعرفة. وبناءً عليه، فإن المفردة تصبح مفهومًا عند أهل التتبّع العلمي، بينما هي عينها تصبح رمز إشارة لمعنى حقيقي عند من يتلقى الإشارة كوميض نور حي.. لذا فإن هذه الكتب الاصطلاحية تعتبر المدخل الابتدائي عند المتعلم على عالم يحمل استقلاليته، علمًا أنه قد يكون مدخلًا موهمًا أحيانًا. من هنا كان الاهتمام بنوع آخر من الكتب التي دوِّنت على سبيل من الإرشاد والتعليم، والتي تبنتها مجامع علمية كبرى في قم وغيرها، ومن هذه الكتب “منازل السائرين” لعبد الله الأنصاري وشروحاته. وفي هذه الكتب تمّ تقديم المعالجات العملية التي استُفرغ فيها الوسع النظري لتقعيد نتائج التجربة الروحية عند الصوفي.
وسوف آخذ نموذجين من المفردات بحسب كل صنف من تلك الكتب:
في الكتب الاصطلاحية ورد تعريف الولاية والولي بالقول: “الولي: من تولى الحق أمره، وحفظه من العصيان، ولم يخله ونفسه بالخذلان، حتى يبلغه في الكمال مبلغ الرجال، قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾[2].
الولاية: هي قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه، وذلك بتولي الحق إياه حتى يبلغه غاية مقام القرب والتمكين”[3].
وهذا يعني أن المصطلح وصَّف الأمر عبر جملة مفاهيم تتشابك فيما بينها لإيضاح أو مقاربة المعنى المقصود، ولو على مستوى التصور الذهني. دون أن تكون معنية بما يزيد عن ذلك في الإطار الإرشادي، وإن كانت تفيد على مستوى التدقيق في الإفهام والتفهيم بين المتحاورين والمتثاقفين، وهي بذلك تفتح الباب أمام الباحث أو المتعلّم ليتعرّف بشكل أوضح على دراسات وتعاليم الكتب الصوفية والعرفانية التي تكون من الصنف الثاني (أي تلك الكتب التعليمية)، كما أنها تفيد في معرفة المقصود من مباحث بعض الكتب المصدرية في التصوف والعرفان. ومن ذلك دور كتاب “اصطلاحات الصوفية” للكاشاني في معرفة المعاني الاصطلاحية الواردة في نصوص ابن عربي، وكتابه الفتوحات المكية على وجه الخصوص.
2 – النموذج الثاني هو مفردة التمكين، والتي وردت في رسالة منازل السائرين ضمن قسم الولايات، إذ يقول فيها: “التمكّن هو فوق الطمأنينة، وهو إشارة إلى غاية الاستغراق.. وهو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: تمكّن المريد وهو أن تجتمع له صحة قصدٍ تيسِّره، ولمع شهود يحمله، وسعة طريق تروِّحه. الدرجة الثانية: تمكّن السالك؛ وهو أن تجتمع له صحة انقطاع وبرق كشف وصفاء حال السالك هو فوق المريد ودون العارف.. الدرجة الثالثة: تمكّن العارف؛ وهو أن يحصل في الحضرة فوق حجب الطلب لابسًا نور الوجود، العارف فوق السالك ودون الفقير”[4].
وحينما شرح التلمساني معنى التمكّن فإنه قال: “هو القدرة على التصرّف في الفعل والترك وأكثر ما يطلق في اصطلاح القوم على ما حصل له البقاء بعد الفناء”[5].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] محمد عرابي، النصوص في مصطلحات التصوّف، (دار قتيبة، سنة 85)، الصفحة 88.
[2] سورة الأعراف، الآية 196.
[3] عبد الرزاق الكاشاني، معجم اصطلاحات الصوفية، (القاهرة: دار المنار، 1992)، الصفحة 79.
[4] شرح التلمساني على منازل السائرين، انتشارات بيدار، الصفحتان 503 و 504.
[5] المصدر نفسه
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
الشيخ حسين الخشن
الشيخ محمد صنقور
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ فوزي آل سيف
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ محمد علي التسخيري
حيدر حب الله
حسين حسن آل جامع
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
الإمام الصادق (ع) أبو المذاهب بشهادة أئمتها (2)
الإمام الصّادق: سراج سماء المعارف
دور الإمام جعفر الصادق (ع) في تمتين العلاقات مع الآخر
العامل الأول لانطلاق مسيرة التقدّم في المجتمع
سلامة القرآن من التحريف (4)
الإمام الصادق: مشكاة علوم النّبوّة
قلق الرياضيات عند أولياء الأمور يؤثر سلبًا على إنجاز أطفالهم في هذه المادة
علم الإمام الصّادق (ع) إلهامي
الإمام الصادق (ع) أبو المذاهب بشهادة أئمتها (1)
يا إمام اليقين