قرآنيات

القراءات والقرّاء


السيد رياض الحكيم ..

الملاحظ أنّ هناك قراءات عديدة للآيات القرآنية، والمشهور منها حالياً سبع قراءات منسوبة لسبعة من القرّاء. وقد تعدّدت الآراء حول القراءات المتعدّدة للقرآن الكريم، ومدى اعتبارها، والضوابط الدقيقة للقراءة المعتبرة.
وقد ادعى البعض تواتر القراءات السبع المشهورة، قال الزركشي: "والقراءات السبع متواترة عند الجمهور"(1)، ونسب الزرقاني القول بتواتر القراءات العشر إلى "المحقّقين من الأصوليين والقرّاء كابن السبكي وابن الجزري والنويري..."(2).
ويجدر بنا أن نشير إلى تاريخ القراءات وأسباب تعدّدها، فنقول:
يرجع الاختلاف بين القراءات إلى عصر الصحابة عقيب وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما تشير إليه المصادر التاريخية "حيث عمد جماعة من كبار صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعد وفاته إلى جمع القرآن في مصاحف، كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل والمقداد بن الأسود وأضرابهم، وربّما اختلفوا في ثبت النص أو في كيفية قراءته، ومن ثمّ اختلفت مصاحف الصحابة الأولى"(3).
ويشير ابن أبي داوود إلى أنّ المصحف الذي جمع عثمان الناس عليه لم يخل من لحن، حيث ذكر أنّ المصحف المذكور قد عرض على عثمان فقال: "قد أحسنتم وأجملتهم أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، ثمّ قال: أما لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا"(4).
إذن فقضية اختلاف القراءات ليست وليدة العصور المتأخرة، وإنّما تمتد إلى عصر الصحابة، بل تدل بعض النصوص - بغض النظر عن صحّتها - إلى تعدد القراءات في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم).
منها: ما روي عن أبي بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها فدخلنا جميعاً على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ودخل ثالث فقرأ كل واحد منّا غير قراءة صاحبه فجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يحسّن الجميع..."(5).
ومنها: ما عن زيد بن أرقم قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال: أقرأني عبدالله بن مسعود وزيد وأُبي فاختلفت قراءتهم، بقراءة أيّهم آخذ؟ قال: فسكت رسول الله...(6).
ومنها: ما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقرئنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)... فانطلقت به أقوده الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم). فقلت: إنّي سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تُقرئنيها.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): أرسِلْه، اقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): "كذلك أُنزلت، إنّ هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف. فاقرأوا ما تيسّر منه"(7).
وهناك عدد آخر من النصوص بهذا المعنى رواها علماء الجمهور. وإن كنّا نتحفظ بالنسبة لمضمون بعضها المتضمن لاختلاف القرآن المُنزل.
تدوين القراءات المشهورة
اتّضح من خلال ما تقدّم أنّ ظاهرة تعدد القراءات كانت معروفة منذ عصر الصحابة، وقد انتقلت إلى المسلمين
الذين تعلّموا القرآن منهم، وساهمت عدّة عوامل في تعميق الاختلاف بين القراءات، وتكثيره، حتى صارت القراءة فنّاً كسائر الفنون.
وتجرّد - في فترة لاحقة - قوم لفنّ القراءة واعتنوا به حتى اشتهر فيه جماعة عُرفوا بالقرّاء، ولكل واحد منهم قراءة يتميّز بها.
وقد تصدّى المهتمون ببحوث القرآن الكريم إلى ضبط هذه القراءات وجمعها.
فذكر ابن الجزري أنّ أول من تصدى لتدوين القرّاء وقراءاتهم هو أبو عبيد القاسم بن سلام الأنصاري (ت: 224) تلميذ الكسائي، وقال: "وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئاً، بما فيهم السبعة الذين اشتهروا فيما بعد".
وجاء بعده أحمد بن جبير بن محمد أبو جعفر الكوفي (ت: 258) فجمع كتاباً في قراءات الخمسة من كل مصر واحداً.
ثمّ القاضي اسماعيل بن اسحاق - صاحب قالون - (ت: 282) ألّف كتاباً جمع فيه قراءة عشرين قارئاً.
ثمّ ألّف أبو جعفر الطبري (ت: 310) كتاباً حافلاً سمّاه الجامع فيه نيّف وعشرون قراءة.
إلى أن جاء ابن مجاهد أبو بكر أحمد بن موسى (ت: 324) فألّف كتاباً اقتصر فيه على قراءات السبعة فقط(8). وبعده ألّف الآخرون على منواله.
وهكذا نلاحظ أنّ تعيين هؤلاء القرّاء السبعة وتمييزهم عن غيرهم كان مصدره ابن مجاهد في القرن الرابع الهجري. ولم يميّزهم الذين سبقوه في تدوين القراءات والقرّاء.


1- مناهل العرفان: 1 439.
2- تلخيص التمهيد: 1 213.
3- المصاحف لابن أبي داوود: 32 - 33.
4- مسلم: 2 203، مسند أحمد: 5 127.
5- المستدرك: 2 323.
6- الجامع الصحيح: 3 339، حديث 4992.
7- يراجع البيان: 178.
8- تلخيص التمهيد: 1 159.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد