قرآنيات

ما هو المنهج القرآنيّ في تقويم الملحد صاحب الإنجاز العلميّ؟

السيد منير الخباز

1 - قد يقال: إنَّ المحورية في مجال التقويم لأيّ شخصية إنَّما هي على إنجازها، لا على نواياها أو إيمانها، فالإيمان أو الكفر يرتبط بالبعد الشخصي بين الإنسان وربه، ولا دخل له في تقويم شخصية الإنسان في الحقل الإنساني والاجتماعي، ولذلك فتقويمه يرتكز على مستوى إنجازه للبشرية، فإذا كان إنجازه عظيمًا فهو إنسان عظيم، ولا يضر بقيمته وعظمته كونه كافرًا أو ملحدًا، بل لا يمنع ذلك من الثناء عليه وتربية الأجيال على مدحه وإجلاله.
ولكن المنطق القرآني يختلف عن هذه النظرة، فهو يرى أنَّ قيمة الإنسان بعمله وإنجازه المقترن بالإيمان، لا مطلق الإنجاز، فهناك فرق كبير بين تعظيم الإنجاز وتعظيم الشخصية صاحبة الإنجاز، إذ تارة نقوم بتقويم الإنجاز في نفسه مع غمض النظر عن الشخص، فنقول: هذا إنجاز عظيم، وهذا لا ضير فيه.
وتارة نقوم بتقويم الشخصية فنمدحها ونحببّها للأجيال على أساس إنجازها، وهذا ما يتدخّل فيه المنطق القرآني ويرفضه إذا أُرْسِل على إطلاقه، ويرى أنَّ القيمة للشخصية إذا كان لها إنجازٌ قائمٌ على الإيمان لا مطلقًا. قال تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ﴾، والآية واضحة على أنَّ مناط التفضيل والتبجيل هو العمل المستند للإيمان لا مطلقًا. وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾، ونلاحظ هنا أنَّ عنوان «أعمالهم» مطلق يشمل أفعالهم الشخصية وإنجازاتهم العلمية والإنسانية، فكلها بنظر المقياس القرآني سرابٌ لا قيمة له، لأنها لم ترتكز على الإيمان.
ولذلك ركّزت بعض الآيات القرآنية على العمل المقرون بالشكر لله لا مطلق العمل، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾، ومضافًا لذلك جعل الله تعالى العمل الممدوح هو العمل المبارك من قِبَل المؤمنين، فقال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، أي أنَّ العمل المبارك هو العمل المنظور من قِبَل المؤمنين، وإنّما يكون العمل تحت نظر واهتمام الله ورسوله والمؤمنين إذا كان عملًا مرتكزًا على الإيمان.
2 - قد يقول شخصٌ: إنَّ العلم في حدّ ذاته هو قيمة إنسانية عالية، فالعالم إنسان ذو قيمة عند المجتمع العقلائي، مع قطع النظر عن سلوكه وتصرّفاته، والقرآن قد اتّفق مع هذه الرؤية العقلائية، فقال: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾، وقال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾، لذلك علينا أن نحترم كلّ شخص قدّم علمًا للبشرية وإن كان كافرًا أو فاسقًا.
ولكن نجيب عن ذلك بأنَّ هناك فرقًا بين القيمة المادية والقيمة الموضوعية، فالقيمة المادية للعلم هي عبارة عن أثره في عالم المادة، من حيث إسهامه في تسهيل وسائل الحياة الكريمة المريحة واكتشاف أسرار الطبيعة، وأمّا القيمة الموضوعية فهي عبارة عن القيمة الشاملة التامّة، وذلك بأن يكون العلم وسيلة لاكتشاف الأسرار الطبيعية من جهة، وطريقًا للوصول للمبدأ تعالى من جهة ثانية، ومحفِّزًا على السلوك الفاضل والقيم الخلقية من جهة ثالثة، فالعلم الذي يجمع هذه الإسهامات هو العلم ذو القيمة الموضوعية. ولذلك فالعالم الذي يقتصر في استغلال علمه وطاقته على الإسهام المادي فقط هو محترم من هذه الزاوية فقط، ولكن العالم الذي استثمر طاقته وقدرته العلمية في توظيف العلم في الجهات الثلاث هو صاحب القيمة الموضوعية الشاملة.
وهذه القيمة هي التي ركّز عليها القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾، وقوله في آية أخرى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾، فأوضح لنا في كلتا الآيتين أنَّ العلم العظيم هو الذي يقود لخشية الله ويؤدّي للوصول للتوحيد، سواء كان علمًا بالفيزياء أم الفلك أم الأحياء أم الكلام.

وهذا ما تؤكّده الآية الأخرى، وهي قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾، وهي دالّة بوضوح على أنَّ الرسوخ في العلم يقود حتمًا للإيمان، وما لا يقود للإيمان فليس علمًا راسخًا. وقال عزَّ وجلَّ: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾، ومضمونها أنَّ فهم الحقائق فهمًا علميًّا هو من شأن أهل العلم الذين يعيشون التفاعل مع الآيات الإبداعية لله تعالى في صدورهم. ولذلك ركّز القرآن في عدّة آيات على قوله: ﴿نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، بلحاظ أنّهم الجهة التي تستقبل المزج بين العلم والإيمان.
وكما أنَّ العلم يقود للإيمان، فإنه يقود للعمل الصالح والسلوك الإلهي الفاضل، فلاحظ قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾، فإنَّ سياق الآية المباركة واضح الدلالة على أنَّ مقصوده تعالى من الذين يعلمون هم من قادهم علمهم إلى العبادة والسجود والقيام لله تعالى، لا إلى الإسهام المادي فقط، ولهذا فإنَّ معنى الآية المباركة التي افتتحنا بها الحديث - وهي: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ - هو أنَّ الرفعة والمقام لمن جمع بين الإيمان والعلم، لا العلم فقط.
3 - قد يقال: هناك رواية وردت في حقّ النبي موسى   أنّه دعاه الله للمناجاة، وقال له: إذا أردت أن تأتي لمناجاتي فاصحب معك من أنت أفضل منه، فبحث موسى   عن شخص هو أفضل منه عند الله فلم يجد، حتى الفاسق عندما وجده احتمل أن يكون لديه أعمال عظيمة تجعله عند الله أفضل منه، بل حتى الكلب وجده وصحبه معه للمناجاة ثم تردّد في كونه أفضل من الكلب عند الله أم الكلب أفضل، وهذا يدلّ على أنه لا يمكن لأحدٍ أن يفضِّل شخصًا على آخر حتى الأنبياء فضلًا عن المؤمنين.
والجواب عن مفاد الرواية من ثلاثة وجوه:
أ - إنَّ كثيرًا من الأنبياء يمرّ بفترة تكامل روحي تجعله أقرب إلى ربّه من أيّ فترة سابقة وأقوى معرفة بخالقه، فمثلًا: آدم   ابتلاه الله تعالى بالنهي عن الأكل من الشجرة امتحانًا له، وإبراهيم   ابتلي بأمره بذبح ولده إسماعيل   امتحانًا له، وموسى   ابتلي بلقاء الخضر   امتحانًا له، وكلّ هذه الامتحانات كانت دروسًا يترقّى فيها النبي من مقام روحي إلى مقام آخر.
وهذه الرواية إذا صحّ سندها تتحدّث عن فترة التكامل التي مرّ بها موسى  ، وكان الدرس الروحي يقتضي أن ينظر لنفسه نظرًا دونيًّا بالنسبة لجميع المخلوقات، ليستشعر حقيقة التواضع في نفسه، صقلًا لشخصيته المعرفية وإكمالًا لمسيرته الروحية، فلا تصلح الرواية دليلًا على عدم وجود مقياس للتفضيل، لورودها في ظرف خاص ومرحلة معينة.
ب - إذا أغمضنا النظر عن المناقشة السابقة، فنقول: هناك فرقٌ بين التقويم الذاتي والتقويم الإلهي، فالتقويم الذاتي يعني أنَّ الانسان يقوم بتقويم نفسه بالنسبة للآخر ليرى هل هو الأفضل أم لا، وهذا ما تنهى عنه الرواية وتقرّر أنَّ المؤمن ليس من شأنه ذلك، وأمّا التقويم الإلهي فهو عبارة عن مقياس وضعه الله تعالى لتحديد التفضيل بين البشر على ضوء مزايا معينة.
وقد صدر منه تعالى في عدّة آيات وضع المقياس، كما في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، وقوله: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ﴾، وقوله في آية ثالثة: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وكلّ هذه الآيات وضعت موازين للتفضيل عبر صفات معينة، فإذا وجدناها في شخص بعد معاشرته فترة طويلة وأحرزنا منه التقوى والإيمان والجهاد والهداية الصادقة، كان أفضل من غيره ممن عاشرناه فلم نجد منه ذلك، فضلًا عن الأنبياء والأوصياء الذين يشترط فيهم كونهم معصومين أصفياء.
ج - إنَّ الأنبياء لم يقوموا بتزكية أنفسهم وتفضيلها، ولكن العقل حكم بأفضليتهم، كما أنَّ الوحي الإلهي قام بتفضيلهم، فلا وجه لأن يقال: لا يمكن التفضيل حتى بالنسبة لخاتم الأنبياء  ، فإنَّ العقل يرى بالبداهة أنه لا يمكن إعطاء النبوّة والعصمة لشخص لا ميزة له على غيره، فإنَّ ذلك ترجيح بلا مرجّح، والترجيح بلا مرجّح قبيحٌ عقلًا، فلا يُعْقَل صدوره من الحكيم تعالى، ولذلك إذا وقع الاختيار لشخص بالنبوة أو الإمامة كشف ذلك عن أفضليته.

وهذا ما أكّده القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، وقوله: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ﴾، وكذلك في قوله تعالى في حق مريم  : ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾، وقوله في حقّ نبيه الكريم  : ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾.
ومن الواضح ضرورة اشتمال الخاتمية على الأفضليّة، فإنَّ مقتضى الحكمة أنَّ لكلّ منصب مقامًا يناسبه، ووضع الشيء في غير موضعه منافٍ للحكمة، ولذلك جعله الله مصدرًا لرحمة العالمين جميعًا، فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾، والآية تدلّ على التفضيل الواضح، إذ لولا تميّز هذه الفئات على غيرها عند الله لما جعل الله تعالى رفقتها في الجنان هدفًا وغاية مطلوبة، والله العاصم

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد