قرآنيات

الرّحمانيّة والرّحيميّة

 

السّيّد عبد الأعلى السّبزواريّ "قدّس سرّه"
(الرّحمن الرّحيم) في قوله تعالى (بسم الله الرّحمن الرّحيم): هما من الرّحمة، ومن مشتقّاتها، ورحمتُه عزَّ وجلَّ أعمّ صفاته وأوسعها، شملت جميعَ ما سواه، قال تعالى: ﴿..وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ..﴾ الأعراف:156، فكلّ ما يُطلق عليه «شيء» في جميع العوالم يكون من رحمته تعالى.
وإشكالُ أنّ الشّرَّ يُطلق عليه «الشّيء» أيضاً فلا بدّ وأن يكون من رحمته تعالى مردودٌ بأنّه ليس في التّكوينيّات شرّ محض، وإنّما يتحقّق الشّرّ بالإضافة، وأمّا في الاختيارات فإنّ وساطة الاختيار بين الفعل والفاعل تجعل الشّرَّ الفاعلَ فلا يكونُ من رحمته، كما في قوله تعالى: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ..﴾ النساء:79.
وفي قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله..﴾ لقمان:27 إشارةٌ إلى مظاهر رحمته الواسعة، وقد اعترف الأنبياءُ صلّى الله عليهم، والأئمّةُ عليهم السّلام، وجميعُ الفلاسفة المتألّهين بالقصور عن الإحاطة بمراتب رحمته تعالى الواسعة، وإنّ بعض عظمائهم أطال القولَ في أنّ وجودَ كلِّ شيء [هو] من رحمته تعالى، وأثبت ذلك بالأدلّة الكثيرة، ومع ذلك، اعترف بالقصور عن دَرْكها.


في دلالة كلٍّ من اللّفظَين
(الرّحمن) و(الرّحيم) من الصّفات المُشَبَّهة، إلَّا أنّ اللّغويّين والمفسِّرين فرّقوا بينهما بوجوه:
الأوّل: أنّ (الرّحمن) مبالغة، و(الرّحيم) صفةٌ مشبّهة تدلّ على مجرّد الثّبوت. وهذا صحيح بالنّسبة إلى ذات اللّفظين حين الإطلاق على المخلوق، وأمّا من حيث إضافَتِهمَا إلى الله عزَّ وجلَّ فلا وجه للمبالغة بالنّسبة إليه تعالى، لأنّ صفاته بالنّسبة إليه تعالى غير محدودة، فلا تجري المبالغة فيها. نعم، تصحّ المبالغة بالنّسبة إلى «مورد الرّحمة»، على نحو قوله تعالى: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا..﴾ الأنعام:160، وقوله تعالى: ﴿..إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ آل عمران:37، إلى غير ذلك ممّا ترجع المبالغة فيه إلى المبالغة بالنّسبة إلى المخلوق.
وأمّا ما في بعض التفاسير من أنّ «فَعلان» [وزن الرّحمن] لا يدلّ على الثّبوت بخلاف «فعيل» [وزن الرّحيم]، وإنّما ذَكر تعالى «الرّحيم» لأجل إظهار ثبوت الرّحمة بالنّسبة إليه تعالى [هو، أي ما في هذه التفاسير] مخدوشٌ، لأنّ التّفرقة بين اللّفظين إنّما تصحّ في الممكنات دون الواجب تبارك وتعالى كما عرفتَ.
الثّاني: (الرّحمن) يختصَّ بالدّنيا، و(الرَّحيمُ) بالآخرة، لِتَقَدُّم الدّنيا على الآخرة في سلسلة العوالم والنّشآت الزّمانيّة، فيكون المقدَّمُ للمتقدِّم والأخيرُ للمتأخِّر، أو لذكر (الرّحيم) مقروناً بالغفران والتّوبة في جملةٍ من الآيات الكريمة، والغفران وأثر التّوبة في الآخرة، [فـ] (الرّحيم) مختصّ بها.
والوجهان مخدوشان لا يصلحان حتّى للاستحسان، فإنّ العوالم بالنّسبة إليه تبارك وتعالى في عرضٍ واحدٍ، وإنَّه محيطٌ بالزّمان والزّمانيّات وخارج عنهما، إلّا أن  يُلحَظ ذلك بالنّسبة إلى المخلوق، وقد ورد (الرّحمن) بالنّسبة إلى الآخرة في قوله تعالى: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ للرّحْمَن..﴾ الفرقان:26، وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾ مريم:85.
كما ورد (الرّحيم) بالنّسبة إلى الدّنيا في قوله تعالى: ﴿..وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ النساء:29، وقد ورد عن الأئمّة الهداة عليهم السّلام: «يا رحمنَ الدُّنيا والآخرةِ ورحيمَهما».


الثّالث: أنّ الأوّل [الرّحمن] عامّ للجميع، لقوله تعالى: ﴿..وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ..﴾ الأعراف:156، والثّاني [الرّحيم] خاصٌ بالمؤمنين، لقوله تعالى: ﴿..بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ التوبة:128، وهذا الوجه أيضاً مردودٌ، فإنّ ذِكْرَ بعض الأفراد وأشرفها لا يدلّ على نفي ما عداه إلّا بالمفهوم، وقد ثبت في محلّه أنّه لا مفهوم للقيد، فراجع.
الرّابع: أنَّ (الرّحمن) ذاتُ الرّحمة الشّاملة لكلّ محتاجٍ إليها، وبجميع مراتبها التّفضّليّة بلا اختصاص لها بنوعٍ دون نوع من الجماد، والنّبات، والحيوان، والإنسان، وسائر المخلوقات، فَلِأجل إهمال المتعلَّق استُفيد العموم والشّمول لجميع الأنواع الممكنة من حضيض الجمادات إلى أوج المجرَّدات.
نعم، من أهمِّ مصاديق «الرّحمانيّة» تنظيمُ عالم التّكوين بأحسن نظام، ومن أجلّ مصاديق «الرّحيميّة» تنظيم التّشريع بأكمل نظام، و[لأنّ] أثرَ التّشريع إنّما يظهر بالنّسبة إلى المؤمنين العاملين به، اختصّت الرّحيميّة بالآخرة من هذه الجهة، فهو تعالى رحيمٌ في الدّنيا بالتّشريع وفي الآخرة بالجزاء عليه

خلاصة القول
والّذي ينبغي أن يُقال: إنّه لا ريب أنّ جميع ما سواه تعالى موردُ إفاضة الوجود منه تبارك وتعالى، وهذا هو (الرّحمة الرّحمانيّة) الّتي خرج بها ما سواه من العدم إلى الوجود؛ كما لا ريب في أنّ كلّ نوعٍ من أنواع الموجودات مطلقاً، بل كلّ صنف له خصوصيّة لا توجد تلك الخصوصيّة في غيرها، وهي غير محدودة بحدّ، وتنكشف في طيّ العصور ومَرّ القرون، وتلك الخصوصيّات غيرُ المتناهية المجعولة منه تبارك وتعالى موردُ (الرّحمة الرّحيميّة).
فكما أنّ في الإنسان نوعاً خاصّاً منه وهو «المؤمن» موردُ رحمته الرّحيميّة، كذلك يكون في المَلَك، والفَلَك، والجَماد، والنّبات، والحيوان -أيضاً- أصنافٌ خاصَّة تكون في الأصناف موردَ رحمته الرّحيميّة، بعد عدم برهانٍ صحيحٍ على اختصاص رحمته الرّحيميّة بخصوص دار الآخرة، كما عرفت.
وقد ذُكر [الرّحمن الرّحيم]  في مفتتح القرآن العظيم للإِعلام بأنّ القرآن من أبرز مظاهر رحمتَيه [الرّحمانية والرّحيمية] تعالى، أمّا الرّحمانيّة فلِفَرْض وحيه وإنزاله، وأمّا الرّحيميّة فلأنّه تبارك وتعالى تجلّى لعباده فأظهر فيه المعارف الرّبوبيّة وخلاصة الكُتب السّماويّة وزبدة التّكوين والتّشريع، وربَط به قلوبَ أوليائه.


ثمّ إنّه يظهر من ذكر (الرّحمن) بعد اسم الجلالة في البسملة، وفي قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ..﴾ الإسراء:110، وسائر موارد استعمال هذا الاسم المبارك في القرآن العظيم أنّ لهذا الاسم الشّريف أهمَّيةً عظمى، ومنزلة كبرى عند الله تعالى، فهو من أمّهات الأسماء كالحيّ، والرّبّ، والقيّوم، والرّحيم، وإلى هذه [الأسماء] الأربعة ترجع سائر أسمائه عزَّ وجلَّ. فإذا رجعنا إلى موارد استعمالات هذا اللّفظ في القرآن الكريم نرى أنّه استُعمل مقروناً بالتّعظيم والتّجليل بالنّسبة إلى عالمَي الدّنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ..﴾ مريم:61، وقال تعالى: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ للرّحْمَن..﴾ الفرقان:26، وقال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ الرّحمن:1-2، وقال تعالى: ﴿..مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ..﴾ الملك:3.
وأمّا (الرَّحيم)، فقد ذُكر في القرآن الكريم غالباً مقروناً مع الرّؤوف، والتّوّاب، والغفور. فقد جمع اللهُ تبارك وتعالى في كتابَيه، التّدوينيّ (القرآن) والتّكوينيّ، بين رحمته الرّحمانيّة ورحمته الرّحيميّة، فتكون الرّحمة الرّحمانيّة عامَّة لجميع الممكنات، قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ طه:5، أي استولى، والعرش هنا عبارة عمَّا سواه تعالى، والرّحمة الرّحيميّة تعمّ جميع ذوي الكمالات التي أُفيضت عليهم، من المجرّدات إلى الجمادات، فتكون من مظاهر رحمتَيه تعالى، كما عرفت.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد