الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(المائدة:4).
* شرح مختصر للآية الكريمة
1- إن قوله تعالى: ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ بمعنى أنّ جميع المحرَّمات هي من الخبائث والأشياء المضرّة، وإلا فإن الله عزّ وجلّ لا يأمر بشيء مخالف لأمر العقل.
2- إن الصيد بواسطة كلاب الصيد محلّل في الحالات المشترطة بما يلي:
أولاً: أن تكون قد دُرِّبت وربيت لهذا الغرض، أي أنها تكون مطيعة لأوامر الإنسان، بحيث إذا أمرها الإنسان بالذهاب فإنها تذهب وعندما يأمرها بالعودة فإنها تعود، لذا فإن كل ما تصيده الكلاب غير المدرّبة والمعلمة ليست محللة.
ثانياً: ألاّ تقوم تلك الكلاب بتقطيع ما تصيده، فإذا قامت بذلك وأكلت جزءًا مما صادته، فإنه ليس بجائز.
ثالثاً: عندما يتم إرسال الكلب خلف الصيد والفريسة، فيجب أن يقوم الصائد بذكر اسم الله، لأن كل ذبيحة لم يذكر اسم الله عليها غير محللة، سواء كانت دجاجة أو غنماً أو بقراً أو جملاً أو مما يصاد من الطيور أو الحيوانات البرية.
* سبب النزول
جاء صيادان في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله إليه وقالا له: نذهب إلى الصحارى مع كلاب الصيد، ونصيد بها الحيوانات البرية المحلّلة، ويصلنا بعضها حياً حيث نقوم بذبحها ولكن بعضها الآخر يقتل بواسطة تلك الكلاب، ففي هذه الحالة هل يعدّ لحم ذلك الصيد محلّلاً أم لا؟ فنزلت الآية الشريفة المذكورة أعلاه جواباً عن هذا السؤال، حيث تذكر في البداية قاعدة عامة في ذلك، ثم تجيب عن سؤال ذينك الصيادين(1)، حيث مرّ ذلك بصورة مختصرة.
* ما هي الطيبات؟
إن لفظة (الطيب) و(الطيبات) استخدمت كثيراً في القرآن الكريم، حيث يدل البحث في جميع حالات استعمالاتها على أنّها تستخدم في معان سبعة وهي:
1- الأشخاص الطيبون
وردت هذه اللفظة في الآية (26) من سورة النور في وصف الإنسان الطاهر والنزيه، سواء كان رجلاً أو امرأة، لذلك يقول تعالى:﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾.
2- الكلام الحسن والطيب
لقد استعملت لفظة الطيب في الآية الشريفة(24)من سورة الحج في وصف الكلام، حيث يقول تعالى: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾.
3- الأرض الطيبة
وصف القرآن الكريم الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة في بعض من آياته بالطيبات ووصف الأرض المالحة التي لا تصلح للزراعة بالخبائث، حيث يقول تعالى في الآية (58) من سورة الأعراف ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾.
4- الصعيد الطيب والتربة الطيبة
وُصفت التربة الطاهرة بالطيبات في القرآن الكريم، فعندما يجب على الإنسان غسل أو وضوء ما، ولا يستطيع ذلك لسبب من الأسباب، فيجب عليه أن يتيمم، إذ يحل التيمم بديلاً عن الغسل والوضوء في هذه الحالة، ولكن بأي شيء يتيمم؟ يقول تعالى:﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ (المائدة: 6).
5- الحياة الطاهرة والطيبة
تم توصي الحياة في القرآن الكريم في الآية (97) من سورة النحل بالطيبة أيضاً حيث يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾. يمكن لحياة الإنسان أن تكون طيبة طاهرة كما يمكن أن تكون خبيثة. فالحياة الطيبة الطاهرة هي حياة ممزوجة بالأمن والهدوء والسلام والمحبة، أما الحياة الخبيثة فهي مترافقة مع النزاع والنكد والخوف من الآخر وفقدان الأمن والخداع. وقد وضّحت الآية الكريمة سبل الوصول إلى الحياة الطيبة عبر العمل الصالح والإيمان والاعتقاد الراسخ الباطني. وللعمل الصالح مفهوم واسع جداً، بحيث يبدأ من الإيمان بالله وذكر لا إله إلا الله، ويشمل أيضاً إماطة الأذى والحجر عن الطريق(2)، وفي ما بينهما: الجهاد في سبيل الله وتهذيب النفس، وبناء وإعمار المساجد والمدارس ومساعدة الأيتام والمحتاجين، وآلاف الأعمال الحسنة والمقبولة التي تكون مشمولة بالعمل الصالح.
6- الأطعمة الطاهرة الطيبة
وُصفت الأطعمة الطاهرة بالطيبات أيضاً في القرآن الكريم، حيث يقول تعالى في الآية (57) من سورة البقرة ما يلي: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾. نعم، لقد ابتُلي بنو إسرائيل على أثر عصيانهم لله عزّ وجلّ بالتيه (الظاهر في صحراء سيناء التي تقع بين مصر وفلسطين)، لمدة 40 سنة على ما ارتكبوه من معاصٍ، بحيث كانوا يفتقدون الظل واللطف والرحمة الإلهية، حتى دعا موسى عليه السلام ربه ليرفع عنهم هذا العذاب. وببركة دعائه أرسل الله عزّ وجلّ الغيوم في النهار لتظلّلهم، كما بعث إليهم أطعمة خاصة من الجنة، طالباً أن يشكروه عزّ وجلّ على ذلك ولا يكفروا بنعمته، ولكنهم مع ذلك اتخذوا طريقهم للمعصية والخطأ، وظلموا أنفسهم بذلك.
* فلسفة تحريم تناول اللحوم المحرمة
إذا كان أكل لحوم الحيوانات الوحشية والمفترسة محرّماً لمنع أن يُطبع الإنسان المسلم بطبع تلك الحيوانات من تناوله لحومها، فإن تحريم أكل لحم الخنزير يعود لأن هذا الحيوان معروف بعدم تقيده من الناحية الجنسية. والإسلام لا يسمح بأن تنتقل هذه الصفة القبيحة عن طريق الهرمونات الموجودة في لحمه إلى الإنسان المسلم، ويتحول المجتمع الإسلامي إلى مجتمع منفلت. وإن حرم الإسلام لحم الحيوان الجلاّل، فالسبب في ذلك أن لحم هذا الحيوان خبيث وملوث، ولا يريد الإسلام أن يتناول المسلم مثل هذا اللحم لئلاّ يتلوث ويخبث جسده، لذا أمر بتطهير تلك الحيوانات وإبرائها عبر إبعادها عن النجاسات لمدة معينة تتخلص خلالها مما أصابها من خبث وتلوث ونجاسة، ثم تصبح قابلة للأكل. حرّم الإسلام شرب الخمر في أربع آيات لأن طعمها خبيث ورائحتها كذلك ولها نتائج وآثار خطيرة وخبيثة، كما إنها تحمل أضراراً كثيرة، حتى إنها وصفت في الروايات بـ(أم الخبائث)(3) و(مفتاح كل شر)(4) و(رأس كل إثم)(5) وأمثال ذلك من التعابير(6)، حيث حرّم جميع الأنبياء ذلك(7). ونظراً لما سبق، هل تعدّ المواد المخدرة بل مطلق الدخانيات من الطيبات أو الخبائث؟ لا شك أن تلك المواد التي تؤدي إلى ضرب الحياة الأسرية ليست من الطيبات، بل هي من الخبائث. فعندما يراجعنا أحد الأشخاص المدخنين للسؤال عن مسألة شرعية فإن رائحة سيئة تفوح من فمه أثناء السؤال، مما لا نستطيع تحمله! فكيف تستطيع أسرته وعائلته تحمّل ذلك؟ ألا يعتبر ذلك من الخبائث والله أعلم؟ وقد أشار الأطباء أخيراً إلى أن 75% من المدخنين يؤول أمرهم إلى الإصابة بسرطان الرئة و40% منهم يصابون بسرطان البروستات، فهل يعد استخدام مثل هذه الأمور التي تؤدي إلى مثل هذه الأمراض الخطيرة جزءاً من الطيبات أو الخبائث؟(8).
* الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد
اختلف أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام وجمع من أهل السنّة في ما إذا كانت الأحكام الإلهية تابعة للمصالح والمفاسد، إذ يقول المعتقدون بذلك الأمر ما يلي: إن ما حرّمه الله الحكيم، لا بد أن تكون فيه مفسدة، وقد حرمه الله عزّ وجلّ لتلك المفسدة، وكل ما أوجبه الله عزّ وجلّ لا بد أن تكون فيه مصلحة ولذلك أوجبه. أما منكرو هذا الأمر فيعتقدون أن الواجبات والمحرمات لم تكن فيها أية مصلحة أو مفسدة قبل وجوبها وتحريمها، بل إن المحرمات بعد تحريم الله عزّ وجلّ أصبحت لها مفسدة، والواجبات كذلك أصبحت لها مصلحة بعد وجوبها من قبل الله عزّ وجلّ.
وهذا الكلام عجيب والقائلون به أيضاً قليلون. ونحن، أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، في ظل عملنا بحديث الثقلين نعتقد أن حكمة الله عزّ وجلّ توجب أن المحرمات قبل تحريمها كانت فيها مفسدة، وأن الواجبات قبل وجوبها كانت فيها مصلحة. وفي القرآنالكريم حوالي (70) آية تتكلم حول العقل، ويدعو الله عزّ وجلّ المسلمين بأشكال مختلفة إلى التفكير والتعقل، لذا فإن الإسلام دين العقل، إذ إن العاقل يعتبر السرقة أمراً قبيحاً والتصرف في أموال الناس بدون رضاهم كذلك، ولذلك فإن الله عزّ وجلّ بالتناسب مع حكم العقل يحرّم شرب الخمر، فكل المحرَّمات والواجبات فيها مفسدة ومصلحة، ولكننا ندرك مفاسد بعض تلك المحرمات ومصالح بعض تلك الواجبات، ولا نعلم بعضها الآخر، ولذا ذكرت في رواياتنا فلسفة الأحكام حيث ألّفت في هذا المجال كتب عديدة(9).
________________________________________
(1) تفسير الأمثل، ج4، ص273.
(2) عوالي اللآلي، ج1، ص431 - صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب 12، الحديث 58 – مسند أحمد، ج2، ص379.
(3) وسائل الشيعة، ج17، ص253، حديث 11.
(4) المصدر السابق، ص254، حديث8.
(5) المصدر السابق، ص253، حديث7.
(6) المصدر السابق، ص251، حديث3.
(7) المصدر السابق، ص240، حديث12.
(8) راجع كتاب (السيجار الظاهرة المميتة لعصرنا).
(9) لمزيد من المعلومات راجع كتابنا الربا والصيرفة الإسلامية، ص29 وما بعد.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان