قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

مصاحبة الهماز ومشاورته (1)

 

الشيخ محمد صنقور

﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ/هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ/مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ/عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾(1)
مَن هو الهمَّاز؟
الهمَّاز كما يُعرِّفه اللغويون هو الكثير الوقوع في أعراض الناس والذي يكثر من إيقاع العيب فيهم، فهذا هو الذي يُنعت بالهمَّاز، وأصل هذه الكلمة من الهمْز الذي هو الدفع للشيء بعنف وبشدَّة أو الطعن بالعصا بالشيء، وقد يُطلق الهمز ويُراد منه الكسر، وكلُّ هذه المعاني متقاربة وإنَّما استُعيرت لمَن يطعن في أعراض الناس ويعيبهم ويُكثر من النقد والانتقاص منهم، ذلك لأنَّ التعييب والطعن على الناس في أعراضهم أشبه شيء بكسرهم، فعندما تُعيِّر أحداً بعيبه تبتغي من ذلك تصغيره في أعين الناس وتحقيره وإساقطه من أعينهم، فكأنَّك كسرته، وكذلك عندما تعييب أحداً فيصل إليه قولك فيه فإنَّه يستشعر الإنكسار في نفسه، ويستشعر الغبن في نفسه، وينتابه الهمُّ والغم لأنك قد انتقصته وأعبته لذلك ورد في الحديث: "من كسر مؤمناً فعليه جبره"(2) عبرت الرواية عن التعييب والإهانة والاستنقاص بالكسر، فهذا هو الهماز.
وقد توعَّدت آيةٌ أخرى المتَّصف بهذا السجيَّة الممقوتة قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾(3) يعني عذابٌ من الله عزوجل يقعُ على كلِّ مَن يتَّصف بهذه السجيَّة وهي الانتقاص من عباد الله والإفشاء لمعائبهم.
ثم إن الآيات -التي التي تلوناها- هي بصدد النهي عن مشاروة الواجدين للصفات المذكورة فيها، والنهي عن الإصغاء إلى مشورتهم، والعمل بنصحيتهم، بل والنهي عن معاشرتهم، فهي قد نهت عن مصاحبة الحلاف والقبول بمشورته وبنصيحته وبرأيه، وقد ذكرنا منشأ ذلك.

منشأ النهي عن مصاحبة الهمَّاز:
فما هو منشأ النهي عن مصاحبة الهمَّاز؟ وما هو منشأ النهي عن القبول بمشورة الهمَّاز العياب والطعان في أعراض الناس؟ يُروى عن الإمام عليٍّ (ع) انه قال: "الهمَّاز مذموم مجروح"(4)، بمعنى أنَّ نصيحته مجروحة ومشورته مجروحة، أي متَّهمة، فالرجل الذي يُكثر من الطعن في الناس لن يمحضك النصيحة ولن يُخلصَ لك في المشورة، ذلك لأنَّه ينظر للناس بنظرةٍ سوداوية، فلا ينشأ نقده ولا تنشأ نصحيته ومشورته عن تعقُّل وإنَّما تنشأ عن بواعث نفسية، ففي الواقع كثرة التعييب للآخرين مؤشِّر على نفسيَّة مبتلاة بالكثير من الأمراض والعُقَد والرذائل النفسانية.

المنشأ الأول: العجب بالنفس
فلا تجد أحداً يُكثر من التعييب والطعن والنقد بغير وجهِ حق للآخرين إلا وهو مبتلى مثلاً بالعجب بنفسه، لماذا هو يعييب الآخرين ويُكثر من الطعن فيهم؟ لأنَّه يجد نفسه مبرأً من هذه العيوب، منزَّهاً من هذه النقائص، فينظر إلى نفسه أنَّها النفسُ الكاملة الراقية المتعالية عن النقائص والعيوب وفي ذات الوقت ينظر للآخرين بأنَّهم المجترحون للأخطاء المبتلَون بالنقائص والمعايب، فهو معجبٌ بنفسه، والمعجَبُ بنفسه مريض لذلك لا ينبغي أنْ تقبل نصيحته ولا مشورته، على أيِّ شيءٍ تعجب بنفسك؟ تعجبك نفسك بأي وجه؟ ولماذا؟ هل أنت تمتاز على الآخرين بعقلٍ يفتقده الناس؟ أو بمستوىً من العلم ليس عند كلِّ الناس؟ أو أنك مخلوق من غير ما خُلق منه الناس؟ أو إنَّك لن تؤول إلى ما سيؤول إليه الناس؟ كلُّ ذلك ليس لك، فلماذا إذن تعجب بنفسك؟ الإعجاب بالنفس يكشف عن أنَّ هذا الإنسان مبتلى بقلَّة العقل، وبضعفٍ للفهم للواقع، فهو يتوهَّم أنَّه متميِّزٌ على الناس لأنَّ المعجب بنفسه نظرته لذاته وللحياة ليست واقعية، إذن فأحد مناشئ كثرة التعييب للآخرين هو العجب بالنفس.

المنشأ الثاني: التكبُّر
ومنشأٌ آخر لكثرة التعييب للآخرين هو الشعور بالكبرياء والاستعلاء فلا تجد أحداً يُكثر التعييب للآخرين إلا وهو يعيش في داخله نفساً متعالية مستكبرة يرى نفسه أعلى من الناس، لذلك ينتقدهم وينتقصهم ويعيبهم ويتتبع عثراتهم.

المنشأ الثالث:الحسد والضغينة
ومنشأٌ ثالثٌ من مناشئ كثرة التعييب هو أنَّه مبتلىً بنفسٍ مثقلة بالحسد والضغينة، -وهي من أسوأ الأمراض التي يبُتلى الإنسان- فداء الحسد منشأٌ آخر لكثر التعييب للآخرين، فلا تجد أحداً يُكثر من التعييب للناس إلا وهو غالباً ما يكون مبتلى إما بالحسد أو أنَّه رجل مبتلى بالضغينة والحقد على الآخرين، فهو يكره هذا ويبغض ذاك ويمقت هذا ولا يحب ذاك لذلك يبحث عن عثراتهم فإن وجد كشف وذكر وروَّج وإنْ لم يجد ابتكر عيباً للآخرين فوصمهم به، فأيُّ نفسٍ أسوأ من نفسٍ تكون كذلك، مثلُ هؤلاء لا تُقبل نصيحتهم ولا يُشاورون، بل ولا يُصاحبون، لذلك قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ/هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾(5) فالواجد لهذه السجيَّة الممقوتة لا يُطاع، لا تُقبل نصيحته ولا يُصغى إلى مشورته، وقد وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) تأكيداتٌ على هذا الأمر.

أثر البطانة السيئة للسلطان:
فالسلطان هو أول من يلزمه إعتماد هذا الأمر وهو عدم طاعة الهمَّاز، يعني لا ينبغي له أن يتخذ لنفسه بطانةً من مجموعةِ معقَّدين مبتلَون بأمراض الحقد والحسد والكبر والعجب والاستعلاء، فإذا اتخذ لنفسه بطانة من هؤلاء، اللذين ينتقصون الآخرين ويعيبونهم ويستصغرونهم ويحتقرونهم، فإن قبل بمشورتهم وتقييمهم للنالس فعلى دولته السلام، لذلك فإنَّ الإمام عليَّاً (ع) حينما بعث مالك الأشتر إلى مصر ليكون والياً عليها، كانت إحدى وصاياه له، قال: "وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس"(6)، هذا الصنف من الناس يجب ان يكون مستبعداً من مجلسك، فلا تجعله ضمنَ بطانتك ومن أهل مشورتك، بل ليكن مشنوءاً ممقوتاً منك، فإن الطلب لمعايب الناس والبحث عن عثراتهم ليس من شأن السلطان العادل، يقول (عليه السلام): "فإنَّ في الناس عيوباً، الوالي أحقُّ من سترها. فلا تكشفن عمَّا غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك"(7)، فلو أنَّ كلَّ أحدٍ امتثل هذه الوصايا ولو أنَّ الحكام والسلاطين وأصحاب النفوذ تمثَّلوا هذه الحكمة لكُفي المجتمع الكثير من الشرور، فالسلطان يعيش في برجه العاجي العالي فلا يعلم بأحوال الناس ولا أقدارهم ولا تطلعاتهم، ومرآتُه بطانةٌ مبتلاة بالعديد من العقد النفسانية، فهم يُهوِّلون له أخطاء الناس إن كان لهم أخطاء وإن لم يكن لهم أخطاء احتلقوا لهم أخطاءً وحشوا بها عقله وأوغروا صدره على الناس فيستسيغ السلطان بذلك الكذب أو بذلك التهويل إيقاع المزيد من الظلم على رعيته فينالهم من تحريض بطانة السلطان ظلم يضاف إلى ما هم عليه من ظلامات من قبله ومن قبل أتباعه.

"مَن تجرأ لك تجرأ عليك":
وهذا الأمر لا يختص بالسلطان فحتى سائر الناس منهيُّون عن معاشرة العيَّاب الهمَّاز الذي يُكثر من الطعن في أعراض الناس، يقول أمير المؤمنين (ع) فيما روي عنه: "إياك ومعاشرة متتبِّعي عيوب الناس فإنَّه لم يسلم مصاحبهم منهم"(8)، هذا الإنسان الذي يكثر من الطعن على الناس وتعييبهم يجب الحذر من معاشرته ومصاحبته فإن واحداً من الآثار السيئة المترتِّبة على معاشرته وهو أنَّ صاحبه لا يسلم ولا يأمن بوائقه، فهو لن يحفظ سرَّه ولن يستر على معائبه بل سيكشفها يوماًما، يروى عن الإمام(ع) في موردٍ آخر: "مَن تجرأ لك تجرأ عليك"(9)، فاليوم هو قد تجرأ فانتقص الناس وأعابهم في محضرك وغداً يتجرأ عليك فيعيبك عند الناس، "من تجرأ لك تجرأ عليك"، وفي موردٍ آخر ورد عن أمير المؤمنين (ع) قال: "ليكن أبغضَ الناس إليك وأبعدَهم منك أطلبهم لمعائب الناس"(10)، هذه مجموعة من الروايات أكَّدت على أن المتَّصف بهذه السجية الممقوتة والمذمومة لا ينبغي أن يُعاشر، أو يعالج قبل أن يعاشر.
ــــــــــــــــــــــــ
1-سورة القلم/10-13.
2-وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 16 ص 162.
3-سورة الهمزة/1.
4- عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص 38.
5-سورة القلم/10-11.
6- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع) (تحقيق صالح)- ص 429.
7- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج 3 ص 86.
8-عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص 97.
9-شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج 20 ص 342.
10-عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص 405.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد