الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
يقول تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:215). ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (البقرة:219).
* ماذا ننفق؟ ولمن؟
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ جاء رجل من أثرياء المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسأله: ماذا أُنفِقُ؟ وما حدود الإنفاق؟ وعلى من أنفق؟ ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ فجاء الجواب على السؤال الأول بهذا الشكل: كل أمر خير قابل للإنفاق، لذا، لا حدود في الإنفاق، فهو يشمل: المال والثروة، الأملاك والعقارات، الكتاب والمؤلفات، إعداد الوسائل اللازمة لتحرير السجناء الأبرياء، تهيئة جهاز الفتيات المُقْدِمات على الزواج، أداء ديون المدينين، نشر العلم والمعرفة، بذل الجاه لحل المشكلات، بذل الوقت والجهد لمنع انهيار الحياة الزوجية بين الزوجين، بناء المساجد وعمارتها، وكذلك الحسينيات والمدارس الدينية وغيرها، والعيادات والمصحّات والمستشفيات و...، وبالتالي، فكلّ عمل خير يدخل في إطار الإنفاق. وبالتالي، بما أن للخير معنىً واسعاً يشمل كافة الأعمال الحسنة، فإن الإنفاق ليس محصوراً بالأمور المالية والمادية فحسب. وفي الجواب على السؤال الثاني (على من ننفق؟) أشار إلى خمس مجموعات هي:
1 (فللوالدين) إذ الوالدان أول مجموعة تستحق الإنفاق، فهما ممن يجب على الأولاد الإنفاق عليهما في حال احتاجا إلى ذلك ولم يقدرا على رفع حاجتهما بنفسيهما، ويلزم على الأولاد، سواء كانوا أبناء أو بنات، كلٌّ على قدر سعته المالية، أن يرفعوا حاجات والديهما المالية.
2 (والأقربين) إن المجموعة الثانية التي أمر الله تعالى بالإنفاق عليها هي الأقارب والأهل، ولا تقتصر صلة الرحم على زيارتهم وتفقّد أحوالهم، بل إن رفع حاجاتهم والإنفاق عليهم من مصاديقها.
3 (واليتامى) فقد كانوا إحدى وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله في خطبته الشعبانية بالاهتمام بهم، وكذلك نرى تأكيد الباري عز وجل في هذه الآية الكريمة على الوصية بهم.
4 (والمساكين)، ويطلق المسكين على المحتاج، الذي يعيش في منتهى العسر والمشقة، وهو مشتق من (السكون)، لأن مثل هذا الشخص بلغ من الحاجة والفاقة حداً لا يستطيع معه القيام على رجليه، لشدة ما أصابه، فكأنه شلّ ساكناً في مكانه.
5 (وابن السبيل) وهم أولئك المقطوعون في الطريق، والمسافرون المحتاجون المتعفّفون، الذين يشكلون المجموعة الخامسة التي أوصى الباري عز وجل بالإنفاق عليها، وابن السبيل من فقد ماله وزاده، أو سرقه منه سارق، وبقي بلا زاد أو مال في سفره، محتاجاً للمساعدة والإنفاق من الآخرين، ومن المحتمل أن يكون من الأثرياء في وطنه. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ ثم يبيّن تعالى أنه ليس من الضروري أن يكون الناس على اطلاع ومعرفة بإنفاقكم، بل يكفي أن الله عز وجل مطلع على ذلك وعالم به، فهو عليم بكل ما يعمله العباد.
* مقدار الإنفاق:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ اختلف المفسرون في تفسير لفظة (العفو)، وسنشير إلى أربعة موارد مهمة لها:
1 التوازن في الإنفاق... لا إسراف ولا تبذير: الآية الشريفة لا تحبّذ البخل في الإنفاق ولا المبالغة فيه، بل توصي بالاعتدال في الإنفاق.
2 العفو: إنّ الاحتمال الآخر هو المعنى اللغوي للعفو، أي إنّ أحد مصاديق الإنفاق وموارده يتمثل بالتغاضي عن الأخطاء التي تصدر عن الآخرين، والعفو عنها والتجاوز عن أي قصور أو تقصير يبدر منهم، وهذا أعلى درجات الإنفاق. لو اعتاد المسلمون هذا النوع من الإنفاق لحُلّت كثير من مشاكلهم، وأقفل العديد من ملفات نزاعاتهم. أيها الأعزاء! تخلّصوا من كل نزاع وخلاف يمكن أن ينشأ بينكم، باللجوء إلى العفو والمغفرة والتسامح، مستلهمين من هذه الآية الكريمة، ولا تسمحوا لهذه النزاعات بالتفاقم، لأن تلك القيمة العليا سوف تنفعكم في الدنيا والآخرة.
3 البضائع الفائضة: طبقاً لهذا التفسير يوصي الباري عز وجل بعدم تخزين البضائع الزائدة، ولا تكونوا كالذي ينفق عمره في تخزين الأموال، ليتركها لورثته بعد الموت، فيستفيدوا منها ويستعملوها، في حين يجب أن يُسأل عنها، بل يجب إنفاق ما زاد على حاجة الشخص وزوجته وأولاده في سبيل الله.
4 الأشياء الجيدة والنفيسة: صحيح أنه لا إشكال في إنفاق الملابس من الدرجة الثانية، ولكن الإنفاق الحقيقي يتم مما يحبه الإنسان ويفضله، إذ عليه أن يختار منها ما ينفق، وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون﴾، فإن قام الإنسان بالإنفاق من أفضل أمواله وأحسنها، عندها سيُخلق نور خاص في وجوده، وتطرأ على قلبه وروحه حالة روحية عجيبة. وقد كان هذا دأب أولياء الله الذين كانوا ينفقون دائماً من أفضل أموالهم وأنفسها، حيث تصدّقت الزهراء عليها السلام في ليلة زفافها بلباس الزفاف إلى امرأة فقيرة، ودخلت بيت الزوجية بلباس عادي بسيط.
* الإنفاق في القرآن:
1 التنمية الاستثنائية للإنفاق:
يقول تعالى في الآية (261) من سورة البقرة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. إن الإنفاق من المنظور القرآني يتمتع بدرجة من الأهمية حتى إنه ينمو إلى 700 ضعف على الأقل. وإذا كان إخلاص المنفق أكثر وأولوياته التي يختارها في الإنفاق تمتاز بحاجة المجتمع أكثر، فإنه من الممكن أن ينمو حتى 1400 ضعف أو أكثر. إن الصدقة في الدنيا حل للمشكلات. وحتى عندما يواجه الإنسان حالة الفقر والفاقة يستطيع أن ينفق بما يستطيع من إمكانات موجودة في يده حتى يحل الله عزَّ وجلَّ مشكلاته بلطفه وكرمه.
2 الإنفاق شرط الإيمان ومظهر الرحمة:
إن الإنفاق على المحتاجين ومساعدة الفقراء مقدمة الإيمان والتوصية بالصبر ونزول الرحمة الإلهية. إن كثيراً من الشباب يتساءلون حول كيفية السير والسلوك والبرامج العرفانية، وأحياناً يقعون في هذا السبيل بيد بعض المخادعين من المتظاهرين بالعرفان، مما يؤدي إلى بعدهم عن حقيقة الدين، في حين أن القرآن الكريم وضّح البرامج العرفانية بشكل جيد، وأحد أفضل البرامج في السير والسلوك هو الإنفاق في سبيل الله، أي إن العبادة والذكر وتلاوة القرآن والتوسل وأمثال ذلك جميعاً من الأمور اللازمة والمطلوبة والحسنة، ولكن السالك بدون مساعدة المحتاجين لا يمكنه أن يصل إلى تلك المراتب العليا. فالإنفاق يرفع من جهة المشاكل المالية للمحتاجين، ويؤدي إلى كسب الإنسان أدعية الخير له من هؤلاء بفضل الإنفاق، ومن ناحية أخرى، فإنه يقلّل من ارتباطه بمال الدنيا ويسلب ذلك الأمر من قلبه، بالإضافة إلى أنه يؤدي إلى تنمية الرحمة والعطف في الإنسان وتقليل قساوة قلبه.
3 دور الإنفاق في منع التهلكة:
يقول تعالى في الآية (195) من سورة البقرة ما يلي: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. يتخيل البعض أن هذين الأمرين الإلهيين: الإنفاق وعدم إلقاء النفس بالتهلكة منفصلان بعضهما عن بعض ولا علاقة بينهما، ولكن كبار المفسرين ذكروا أن هذين الأمرين مرتبطان لأن التهلكة ثمرة ترك الإنفاق.
4 الإنفاق علامة التقوى:
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون﴾ وطبقاً لهذه الآية الشريفة، فإن للتقوى - التي تعدّ مقياس كرامة الإنسان، والتي تعتبر زاد الآخرة، والتي تمثّل مفتاح دخول الجنة - ثلاثَ علامات وخصائص، ولا يمكن أن يسمَّى الإنسان تقياً إلا إذا كانت فيه تلك العلامات:
أ العلامة الاعتقادية، وهو الإيمان بالغيب، أي الإيمان بالله ويوم القيامة، والذي لا يمكن رؤيته بالعين المجردة.
ب العلامة العبادية: وذلك بأداء العبادات والارتباط بالله تعالى.
ج العلامة الإنسانية: وهو الإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين مما أعطاه الله لذلك المتقي، سواء بالمال والثروة، أو المقام والجاه والمصداقية والعلم والمعرفة والعفو والصفح، أي كل ما رزقه الله عزَّ وجلَّ.
* شروط الإنفاق:
1 ألاّ يترافق مع المنّ: يقول تعالى في الآية الشريفة (264) من سورة البقرة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾.
2 ألاّ يترافق مع الأذى: كما مرَّ في الآية الشريفة (264) من سورة البقرة، فإن الشرط الثاني للإنفاق ألاّ يترافق مع الأذى، وألا يؤذى المحتاج باللسان. ويقول القرآن الكريم حول كيفية التعامل مع المحتاج وتجنّب الأذى أثناء الإنفاق ما يلي: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾.
3 أن يكون الإنفاق بنيّة خالصة: إن الشرط الآخر للإنفاق أن يكون لجلب رضا الله عزَّ وجلَّ فحسب لا لغرض الرياء والتظاهر، أو لاستقطاب آراء الناس في الانتخابات أو لجذب مدحهم وتمجيدهم له أو جمع المريدين والزبائن حوله، وأمور أخرى من هذا القبيل، بل يجب أن يكون هذا الإنفاق لكسب رضا الله عز وجل فقط وفقط.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان