قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد ابو القاسم الخوئي
عن الكاتب :
مرجع شيعي كبير، ورئيس الحوزة العلمية في النجف

مناقشة نسخ آيات متعلّقة بالصّوم

 

السيد أبو القاسم الخوئي
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
فقد ادّعي أنها منسوخة بقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ}.
وذكروا في وجه النسخ: أن الصوم الواجب على الأمة في بداية الأمر كان مماثلاً للصوم الواجب على الأمة السالفة، وأن من أحكامه، أنّ الرجل إذا نام قبل أن يتعشى في شهر رمضان، لم يجز له أن يأكل بعد نومه في ليلته تلك، وإذا نام أحدهم بعد المساء، حرم عليه الطعام والشراب والنساء، فنسخ ذلك بقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ}.
وبقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ}.


وقد اتفق علماء أهل السنة على أن آية التحليل ناسخة، ثم اختلفوا، فقال بعضهم: هي ناسخة للآية السابقة، فإنهم استفادوا منها أنّ الصّوم الواجب في هذه الشريعة مماثل للصّوم الواجب على الأمم السالفة، وقال بذلك أبو العالية، وعطاء، ونسبه أبو جعفر النحاس إلى السدي أيضاً. وقال بعضهم: إن آية التحليل ناسخة لفعلهم الذي كانوا يفعلونه.
ولا يخفى أن النسخ للآية الأولى موقوف على إثبات تقدمها على الآية الثانية في النزول، ولا يستطيع القائل بالنسخ إثباته، وعلى أن يكون المراد من التشبيه في الآية تشبيه صيام هذه الأمة بصيام الأمم السالفة، وهو خلاف المفهوم العرفي، بل وخلاف صريح الآية، فإن المراد بها تشبيه الكتابة بالكتابة، فلا دلالة فيها على أن الصومين متماثلان لتصحّ دعوى النسخ، وإذا ثبت ذلك من الخارج، كان نسخاً لحكم ثابت بغير القرآن، وهو خارج عن دائرة البحث:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ}، فادعي أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
ودعوى النسخ في هذه الآية الكريمة واضحة الثبوت، لو كان المراد من الطوق السعة والقدرة، فإن مفاد الآية على هذا: أن من يستطع الصوم، فله أن لا يصوم ويعطي الفدية: طعام مسكين بدلاً عنه، فتكون منسوخة.


ولكن من البين أن المراد من الطاقة: القدرة مع المشقة العظيمة. وحاصل المراد من الآية: أن الله تعالى بعد أن أوجب الصوم وجوباً تعيينياً في الآية السابقة، وأسقطه عن المسافر والمريض، وأوجب عليهما عدة من أيام أخر بدلاً عنه، أراد أن يبين حكماً آخر لصنف آخر من الناس، وهم الذين يجدون في الصوم مشقة عظيمة وجهداً بالغًا، كالشيخ الهرم، وذي العطاش، والمريض الذي استمر مرضه إلى شهر رمضان الآخر، فأسقط عنهم وجوب الصوم أداءً وقضاءً، وأوجب عليهم الفدية، فالآية المباركة حيث دلّت على تعيين وجوب الصّوم على المؤمنين في الأيام المعدودات، وعلى تعين وجوبه قضاءً في أيام أخر على المريض والمسافر، كانت ظاهرة في أن وجوب الفدية تعييناً، إنما هو على غير هذين الصنفين اللّذين تعيّن عليهما الصّوم، ومع هذا، فكيف يدّعى أن المستفاد من الآية هو الوجوب التخييري بين الصّوم والفدية لمن تمكّن من الصوم، وإن أخبار أهل البيت(ع) مستفيضة بما ذكرناه في تفسير الآية.
ولفظ الطاقة، وإن استعمل في معنى القدرة والسعة، إلا أن معناه اللغوي هو القدرة مع المشقّة العظيمة، وإعمال غاية الجهد. ففي "لسان العرب": الطوق الطاقة، أي أقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكنه أن يفعله بمشقّة منه. ونقل عن ابن الأثير والراغب أيضاً التصريح بذلك.
ولو سلمنا أنّ معنى الطاقة هو السعة، كان لفظ الإطاقة بمعنى إيجاد السعة في الشيء، فلا بدّ من أن يكون الشيء في نفسه مضيقاً لتكون سعته ناشئة من قبل الفاعل، ولا يكون هذا إلا مع إعمال غاية الجهد. قال في "تفسير المنار" نقلاً عن شيخه: فلا تقول العرب: أطاق الشيء إلّا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضّعف، بحيث يتحمل به مشقّة شديدة.
فالآية الكريمة محكمة لا نسخ لها، ومدلولها حكم مغاير لحكم من وجب عليه الصّوم أداءً وقضاءً. وجميع ما قدّمناه مبنيّ على القراءة المعروفة.
أما على قراءة ابن عباس، وعائشة، وعكرمة، وابن المسيب، حيث قرأوا "يطوقونه" بصيغة المبني للمجهول، من باب التفعيل، فالأمر أوضح. نعم، بناءً على قول ربيعة ومالك، بأن المشايخ والعجائز لا شيء عليهم إذا أفطروا، تكون الآية منسوخة، ولكن الشأن في صحة هذا القول، والآية الكريمة حجّة على قائله.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد