قرآنيات

تفسير سورة القدر (1)

الشهيد مرتضى مطهري
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر/1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (القدر/2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (القدر/3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (القدر/4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (القدر/5)﴾
يدور حديثي حول سورة القدر: القضاء والقدر ضربان: ضرب قابل للتبديل، وضرب غير قابل للتبديل. في أدعية شهر رمضان نقرأ طالبين من الله أن يقدر لنا قدراً من الضرب الذي لا يتغير ولا يتبدل. من هذا يتضح أن هناك قدرين: -القدر الذي يمكن تبديله- القدر الذي لا يمكن تبديله.
والدعاء من أرفع مطاليب البشر، إذ أن الإنسان يريد بالدعاء أن يغير المقدرات، أي إنه يريد أن تؤثر الأرض في السماء، والطبيعة في ما وراء الطبيعة. نحن لا نعلم أي المقدرات يمكن تغييرها، وأي المقدرات لا يمكن تغييرها، ولكننا ندعو دعاءنا حتى نغير القدر الذي يمكن تغييره، فإذا لم يكن من النوع الذي يمكن تغييره، نكون على كل حال، قد دعونا، والدعاء عبادة، وللدعاء أثران: أ-الدعاء بحد ذاته تقرب الإنسان من الله. ب-إذا لم يتحقق الدعاء فعلا، فإنه مستجاب، لأن أصل الدعاء يعطي أثره، أما تحقق المطلوب أو عدم تحققه فأمر آخر إنها سورة من تلك السور ذوات النغمات الخاصة، وفيها موضوع مثير للتساؤل.
فلنتدبر الآن في هذه الآيات، وفي آيات أخرى، لنرى ما يستفاد من هذه السورة الصغيرة. ونبدأ بشرح بعض الألفاظ، يتضح من آية ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ أن هذه الليلة عظيمة الشأن من عند الله، وأن البشر لا يقدر على أدراك أهميتها، فهي ليلة جليلة وعظيمة، حتى أنها ﴿خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ حيث الملائكة والروح تنزل فيها بأمر من ربها، ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر﴾.
النقطة الأولى هي أن القرآن قد نزل في ليلة القدر، غير أن هذه السورة لا تعين أية ليلة هي ليلة القدر هذه، إلا هناك آية أخرى في سورة البقرة تقول: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (البقرة/185)﴾، فهو يصف شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن. إذن، ليلة القدر هي إحدى ليالي شهر رمضان، بدلالة الآية الأولى من سورة القدر، وهذه الآية من سورة البقرة.


هنالك آية أخرى من سورة الدخان، فيها توضيح آخر لليلة التي نزل فيها القرآن. وتلك الآية هي: ﴿حم (الزخرف/1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (الزخرف/2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الزخرف/3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (الزخرف/4) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ (الزخرف/5)﴾ أي إن ليلة نزول القرآن ليلة مباركة، وإننا نحذر وننذر بالخطر، وهي ليلة تحدث فيها أمور.
وعليه فإن الليلة التي نزل فيها القرآن، بحسب آية سورة البقرة، هي من ليالي شهر رمضان، وبحسب هذه الآية، هي ليلة مباركة تجري فيها أمور، أي إنها ليلة التقدير، ليلة توضع فيها سلسلة من التقديرات. وبأخذ آية ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ بهذا الخصوص، يتضح أن الليلة من ليالي الله التي تجري فيها أمور.
ثمة نقاط لا بد من البحث فيها: يتبادر إلى الذهن هنا سؤال. فإذا كان نزول القرآن في ليلة القدر، وليلة القدرمن ليالي شهر رمضان، أفلا يعني هذا إن النبي قد بعث في ليلة القدر؟ فلماذا نحتفل بالمبعث في اليوم السابع والعشرين من رجب، مع أن القرآن يصرح بنزوله في رمضان؟
هنا لابد من أن نشير إلى موضوع، وإن لم يكن جوابا على هذا السؤال، إلا أننا لابد أن نشير إليه، وهو إن للقرآن نزولين: النزول الإجمالي، والنزول التدريجي، أو التفصيلي. فالنزول الإجمالي هو النزول غير الزماني، والنزول التدريجي هو النزول التفصيلي الزماني.
وكلمة "نزول" بحسب اللغة العربية، ترد في موضعين اثنين: الأول من باب إفعال (إنزال) ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾، والآخر من باب تفعيل (تنزيل)، كما في الآية ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (السجدة/2)﴾. علماء اللغة العربية يقولون إن هناك فرقاً بين هاتين الصيغتين من حيث المعنى. فأنزلناه ترد حيث يقصد النزول الكلي دفعة واحدة، وتنزيل ترد حيث يكون التنزيل تدريجياً فالقرآن، إذن، إنزال وتنزيل.
ففي هذه الآيات﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر/1)﴾ و﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ و﴿حم (الزخرف/1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (الزخرف/2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الزخرف/3)﴾ يأتي الفعل من إفعال، وهي كلها تشير إلى نزول إجمالي دفعة واحدة، غير مشروط بزمان، نزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قبل تنزيله عليه بهيئة روح، لا بهيئة آيات وكلمات وألفاظ وسور. وبعد أن استقرت تلك الروح في الرسول الكريم، وهي روح القرآن، نزل القرآن مرة أخرى بهيئة ألفاظ وكلمات وسور هذه المرة.
إن لدينا بهذا الشأن روايات كثيرة، فقد ورد عن الأئمة الأطهار مرارا أن القرآن قد نزل على الرسول الكريم بهيئتين: بهيئة إجمالية واسعة ودفعة واحدة، وبهيئة تفصيلية تدريجية زمانية. فذلك النزول الإجمالي الذي نزل على الرسول دفعة واحدة، هو النزول الذي حدث في شهر رمضان. في ذلك الوقت لم يكن الرسول قد بعث بعد. بعثة الرسول تبدأ منذ أن نزل جبرئيل يحمل إلى الرسول القرآن والروح والحقيقة، في صورة ألفاظ وكلمات. ذلك هو زمان بعثة الرسول. وهو ما حصل في شهر رجب، ودام 23 سنة.
هنالك لفظتان لكتاب الله: القرآن والفرقان، كما جاء في سورة الفرقان: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (الفرقان/1)﴾، الفرقان من مادة "فرق" أي الفصل والتفريق. والمقصود هو أننا أنزلنا القرآن مفرقا، مجزأ، لكي تقرأه على الناس تدريجيًّا، يرى بعضهم أن لفظة "قرآن" تطلق على كتاب الله مجموعًا، وتطلق عليه لفظة "فرقان" إذا قصدت أجزاؤه وتفاصيله، كما نزلت آياته وسوره.
إن ما ذكرناه يتعلق بنزول القرآن، إن كان في شهر رمضان أم في شهر رجب، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾أولاً، لماذا أطلق على هذه الليلة إسم ليلة القدر؟ أهو لأنها ليلة التقدير، الليلة التي تعين فيها مقدرات الناس؟ تلك الليلة الوحيدة في السنة حيث يكتب لكل امرئ ما قدر له، أم إن معنى القدر هو التقدير والتثمين؟ أي الليلة الثمينة ذات القدر، على كل حال، حتى لو أخذنا المعنى الثاني، فإنها عالية القدر باعتبار المعنى الأول، إذ يقول بعد ذلك إنها خير من ألف شهر.
ثم هناك مسألة تطرح نفسها بخصوص الزمان والمكان، هل إن أجزاء الزمان وأجزاء المكان لها قيمتها بحد ذاتها، وبصرف النظر عن ارتباطها بحدث معين؟ الواقع إن أجزاء الزمان، من حيث كونها أجزاء زمان، لا يختلف الجزء منها عن الجزء الآخر بشيء. أي إن درجة وجود الجزء واحدة لكل الأجزاء، فلا فرق بين جزء من الزمان وجزء آخر، ولا يكون جزء أفضل من جزء، كأن يكون جزء فضيلا وآخر غير فضيل.
أما الأجزاء المكانية، أي الحيز المكاني من الأرض، فقد يكون هناك فرق بين أرض وأرض، إذ أن أجزاء المكان ليست ببساطة أجزاء الزمان، فهناك فروق بينها، ولكنها فروق مادية لا معنوية، فما معنى هذا؟ يعني إنه إذا كانت الأرض سبخة، لم تعط حاصلا، وإذا لم تكن سبخة، أعطت حاصلاً وافراً.


أما من حيث فائدة البشر، فأرض تكون وافرة البركة، وأخرى تكون سبخة عديمة العطاء، فهذا مكان فيه بركة، وآخر لا بركة فيه. فالأرض المعطاء تعدل عند الزارع مئة ضعف من أرض لا خير فيها. فإذا وهبت مزارعاً أرضا ملحاً، فما نفعها له؟ ولكنك اذا وهبته هكتاراً واحداً من أرض خصبة، فقد يعتاش منها سنته. وهذا أمر مادي ويرتبط بحياة الإنسان. فماذا عن الجانب المعنوي؟ فهل في الأرض بحد ذاتها اختلاف من حيث المعنويات؟ أي بقطع النظر عن ارتباطها بأي حدث أو واقعة، وقبل أن يوجد أي إنسان في العالم، فهل يكون لقطعة أرض فضل على أخرى؟ فمثلاً، هل إن أرض مكة أو الكعبة، قبل أن يخلق بشر على وجه الأرض، وقبل أن يظهر إبراهيم وإسماعيل كانت تمتاز بشيء على أية قطعة أرض أخرى.
الجواب هو أن ليس لأجزاء الزمان، ولا لأجزاء المكان، بذواتها، أي اختلاف معنوي فيما بينها، فليس ثمة أرض مباركة، ولا أخرى خبيثة (معنوياً). أجزاء الأرض كلها متساوية. غير أنها قد يتغير حالها، لأمر طارئ، فتصبح مباركة، كقطعة أرض متروكة، ثم تبنى مسجداً، فتصبح معبداً، وتكون لها سلسلة من الآداب والفروض الخاصة ويكون المكان مباركاً. لماذا؟ لأننا جعلناه مسجداً. كذلك البلدان. لا ريب إن الله يعلم منذ الأزل إن الأرض الفلانية ستكون مباركة لسبب ما.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد