الشيخ محمد هادي معرفة
لمعرفة المكّي من المدَني ـ سواء أكانت سورة أمْ آية ـ فائدة كبيرة تمسّ جوانب أسباب النزول، وتمدّ المفسِّر والفقيه في تعيين اتّجاه الآية، وفي مجال معرفة النّاسخ من المنسوخ، والخاصّ من العامّ، والقيد من الإطلاق، وما أشبه، ومن ثمَّ حاول العلماء جهدهم في تعيين المكّيات من المدَنيات، ووقع إجماعهم على قِسم كبير، واختلفوا في البقية، كما استثنوا آيات مدَنية في سوَر مكّية أو بالعكس، ولذلك تفصيلٌ ذكرناه في تفصيل التّمهيد .
وإليك بعض فوائد معرفة المكّي عن المدنيّ .فوائد معرفة المكّي من المدَني: لمعرفة السوَر المكّية من المدنية فوائد جمّة نشير إلى بعضها:
أوّلاً: الجهة التاريخيّة لنزول الآيات، ووجه الخطاب فيها، والبيئة التي أحاطت نزولها في كلّ حين، هي غاية تاريخيّة يبتغيها روّاد العلم والمعرفة في جميع القضايا التاريخيّة، ولا سيّما المهمّة منها، ومن أهمّها: قضية نزول السوَر وآيات القرآن، وتترتّب على معرفة الحوادث زمنياً فوائد متصاعدة يعرفها أهل العلم بالتاريخ .
ثانياً: تأثيره في فهْم محتوى الآيات، ولا سيّما في مجالات الفقاهة والاستنباط، فربّما كان ظاهر الآية في شيء ويترتّب عليه حكم شرعيّ، لولا إرادة خلاف هذا الظّاهر البدائي بعد التعمّق في محتوى الآية، ولا سيّما تاريخ نزولها .
مثلاً: كانت مسألة تكليف الكفّار بالفروع، ممّا أثار البحث والجدل العريض بين الفقهاء، فمِن مُثبِتٍ وآخَر نافٍ، والمُثبِت ربّما استدلّ بظاهر قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[فصِّلت: 6، 7]، فإنّها عتاب للمشرِك حيث لا يؤدّي زكاة مالِه، ولا عتاب إلاّ بعد تكليف .
لكنّ الشيء المغفول عنه هنا هو: أنَّ الآية في سورة مكّية ولم يستثنِها أحد، والزكاة لم تكن مفروضة على المسلمين آنذاك، فكيف بالمشركين؟!
قال الإمام الصادق (عليه السلام): "أترى أنَّ الله عزَّ وجلَّ طلبَ من المشركين زكاة أموالهم وهُم يشركون به، حيث يقول: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}؟! إنّما دعا الله تعالى العباد إلى الإيمان به، فإذا آمنوا بالله وبرسوله، افترضَ عليهم الفرائض".
قال المحقّق الفيض الكاشاني: هذا الحديث ـ وهو صحيح الإسناد ـ يدلّ على ما هو التحقيق من أنّ الكفّار غير مكلّفين بالأحكام الشرعيّة ماداموا على الكفر.
ومن ثُمّ، فقد أُوِّلت الآية تأويلات: (منها): ما عن ابن عبّاس أنّها زكاة النّفس، أي: لا يُطهّرون أنفسهم من دَرن الشّرك. (ومنها): أنّ المقصود بالزكاة مطلق الصّدقات والقُربات لوجه الله، حيث الكافر بالله لا يستطيع ـ وهو على كفره ـ أن يتصدَّق بقُرْبة . (ومنها): أنّ المراد حرمان أنفسهم من تكاليف الشّريعة التي هي بمجموعتها تطهير للنفوس؛ وذلك بسبب بقائهم على الكُفر والجحود .
ثالثاً: فائدة كلاميَّة، ولا سيَّما في بحث الإمامة والاستنادات الواقعة كثيراً في كثير من الآيات، وهي موقوفة في الأغلب على معرفة المكيّ من المدنيّ .مثلاً: سورة الدَّهر فيها الآيات بشأن فضيلةٍ من أكبر فضائل أهل بيت النبوَّة، قضيّة النّذْر لشفاء الحسنَين (عليهما السّلام).
ذكر الطبرسي: أنَّ الحسن والحسين (عليهما السلام) مرِضا، فعادهما جدُّهما (صلّى الله عليه وآله) في نفر من وجوه العرب، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذَرت على ولَديك نذْراً، فنذَر صوم ثلاثة أيّام، ونذرَت فاطمة كذلك.. فبرِئا، فأخذ عليّ (عليه السلام) أصْوعاً من الشعير وجاء بها إلى فاطمة؛ لتهيّئها خبزاً لإفطارهم.. فلمّا كان مساء اليوم الأول، أتاهم مسكين يسألهم طعاماً فأعطوه الخبز، وكذلك في اليوم الثاني أتاهم يتيم، وفي الثالث أسير، فلمّا كان اليوم الرابع وقضوا نذورهم، أتوا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وبهم ضعف، فلمّا رآهم النبي على تلك الحالة، رقّ لهم قلْبه، ونزل جبرئيل حينذاك بسورة "هل أتى".
وذكر الطبرسي روايات أُخَر بمختلف الطُرق والمضامين، كلّها تشير إلى سبب نزول السورة بشأن أهل البيت (عليهم السلام)، وهكذا الحاكم الحسكاني، وغيرهما من الأعلام .
كما جاء الطبرسي هنا ـ بصدد إثبات كون السورة مدَنية ـ بروايات الترتيب عن أُمّهات المصادر الأُولى المعتمدة، بحيث ينفى كلّ رَيب في الموضوع، وقد صرّح مجاهد، وقتادة، وغيرهما من أعلام المفسّرين بكون السورة مدنيّة...
نعم، كان مثل عبد الله بن الزبير ـ ممّن يحمل العداء لآل بيت الرّسول ـ يَعتبر السورة مكّية. وهكذا سيّد قطب؛ نظراً إلى لَحْن السورة وسياقها حسب نظره.
رابعاً: في كثير من المباحث القرآنية، نرى تمام الاستدلال موقوفاً على معرفة السورة مكّيةً أمْ مدنيّة، ويكون ذلك حلاًّ فاصلاً في البحث .من ذلك، مسألة نسْخ القرآن بالقرآن، وقد أفرَط فيها جماعات، فأنهَوا الآيات المنسوخة إلى أكثر من مئتي آية منسوخة في القرآن، وهذا إفراطٌ مبالَغ فيه .
وفي تجاه هؤلاء مَن كاد ينكر أصل النّسْخ في القرآن؛ نظراً إلى التهافت البائن بين الناسخ والمنسوخ، المتنافي مع قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82] .أمّا السائرون في الوسط، فيرَون النسْخ قليلاً في القرآن في بِضع آيات ذكرناها في الجزء الثّاني من التّمهيد .ومن الآيات الّتي زعمها الإفراطيون منسوخة: آية الاستمتاع، زعموها منسوخة بآية حِفظ الفَرْج دون الأزواج والإماء .
قال محمّد بن إدريس الشّافعي: إنّ آية الاستمتاع نَسَخَتها آية حِفظ الفروج، ولكن يقال: إنَّ المتمتَّع بها زوجة، ولكنّها منقطعة في مقابلة الزّوجة الدائمة، فهي زوجة وإن اختلفت في بعض أحكامها .وأيضاً، قد غفل القائل بكون النّاسخ آية الحِفْظ، فإنّها مكّية، ولم يقل أحد باستثناء هذه الآية، في حين أنَّ آية الاستمتاع مدنيّة، فكيف يتقدّم الناسخ على المنسوخ بأعوام؟! والمِلاك في تعيين المكّي والمدَني مختلِف حسب اختلاف الآراء والأنظار في ذلك، وفيما يلي ثلاث نظريات جاءت مشهورة:
الأوَّل: اعتبار ذلك بهجرة النبي (صلّى الله عليه وآله) ووصوله إلى المدينة المنوَّرة، فما نزلَ قبل الهجرة أو في أثناء الطريق قبل وصوله إلى المدينة، فهو مكّي، وما نزل بعد ذلك فهو مدَني .
والمِلاك على هذا الاعتبار ملاكٌ زمَني، فما نزل قبل وقت الهجرة، ولو في غير مكَّة، فهو مكّي، وما نزل بعد الهجرة ولو في غير المدينة ـ حتّى ولو نزل في مكَّة عام الفتح، أو في حجَّة الوداع ـ فهو مدَنيّ، باعتبار نزوله بعد الهجرة. وعلى هذا الاصطلاح؛ فجميع الآيات النازلة في الحروب وفي أسفاره (صلّى الله عليه وآله) ـ بما أنَّها نزلت بعد الهجرة ـ كلُّها مدَنيّات .
قال يحيى بن سلام: ما نزل بمكَّة أو في طريق المدينة قبل أن يبلغ (صلّى الله عليه وآله) فهو مكّي، وما نزل بعدما قدِم (صلّى الله عليه وآله) المدينة، أو في بعض أسفاره وحروبه فهو مدَني .قال جلال الدين: وهذا أثر لطيف يؤخَذ منه أنّ ما نزل في سفَر الهجرة مكّي اصطلاحاً.
وذلك كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}[القصص: 85] قيل: نزلت بالجحفة والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) في طريق هجرته إلى المدينة.
الثاني: ما نزل بمكّة وحوالَيها ولو بعد الهجرة فهو مكّي، وما نزل بالمدينة وحواليها فهو مدَني، وما نزل خارج البلدَين بعيداً عنهما فهو لا مكّي ولا مدَني، كقوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}[الرّعد: 30]. قيل: نزلت بالحديبية حينما صالح النبي (صلّى الله عليه وآله) مشركي قريش، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام): (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال سهيل بن عمرو وسائر المشركين: ما نعرف الرّحمن إلاّ صاحب اليمامة ـ يعنون مسيلمة الكذّاب ـ فنزلت الآية. وهكذا آية الأنفال (12) نزلت في بدْر عندما اختصم المسلمون في تقسيم الغنائم، لا مكّية ولا مدنيّة، على هذا الاصطلاح .
الثالث: ما كان خطاباً لأهل مكّة فهو مكّي، وما كان خطاباً لأهل المدينة فهو مدَني، وهذا الاصطلاح مأخوذ من كلام ابن مسعود: كلّ شيء نزل فيه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فهو بمكّة، وكلّ شيء نزل فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فهو بالمدينة. قال الزركشي: لأنَّ الغالب على أهل مكَّة الكُفر، والغالب على أهل المدينة الإيمان.
وهذا الاختلاف في تحديد المكّي والمدَني، أوجب اختلافاً في كثير من آيات وسوَر أنّها مكّية أمْ مدَنية، غير أنّ المعتمد من هذه المصطلحات هو الأوّل، وهو المشهور الذي جرى عليه أكثرية أهل العلم، وكان تحديدنا الآتي في نَظْم السِوَر ـ حسب ترتيب نزولها ـ معتمداً على هذا الاصطلاح .
نعم، الطريق إلى معرفة مواقع النزول أنّها كانت بمكّة أو بالمدينة أو بغيرهما قليل جدّاً؛ لأنّ الأوائل لم يُعيروا هذه الناحية المهمّة اهتماماً معتدّاً به، سوى ما ذكروه في عَرَض الكلام استطراداً، وهي استفادة ضئيلة للغاية، ومن ثمّ يجب لمعرفة ذلك، ملاحظة شواهد وقرائن من لفظ الآية، أو الاستفادة من لهجة الكلام خطاباً مع نوعيّة موقف الموجّه إليهم، أكان في حرب أم في سلم، وعْد أمْ وعيد، إرشاد أو تكليف، فيما إذا أوجب ذلك علماً أو حلاًّ قطعياً لمشكلة في لفظ الآية، كما في قوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا }[البقرة: 158]، فإنّ مشكلة دلالتها على مطلق التّرخيص دون الإلزام والإيجاب، تنحلّ بما أُثر في سبب نزولها، الأمر الّذي يوجب الثقة بصحّة الأثر، مع غضّ النظر عن ملاحظة السّنَد، ومن ثمّ فهي مدنيّة .
قال الجعبري: لمعرفة المكّي والمدَني طريقان: سماعي، وقياسي. فالسماعي: ما وصل إلينا نزوله بأحدهما. والقياسي: قال علقمة، عن ابن مسعود: كلّ سورة فيها (يا أيها النّاس) فقط، أو (كلاّ)، أو أوّلها حروف تهجّي سوى الزّهراوين: (البقرة، وآل عمران)، والرعد ـ في وجه ـ، أو فيها قصّة آدم وإبليس سوى الطولي (البقرة)، أو فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية، فهي مكّية، وكلّ سورة فيها حدّ أو فريضة، فهي مدَنيّة، وفي رواية: وكلّ سورة فيها (يا أيّها الذين آمنوا) فهي مدنيّة .
قال الزركشي: وهذا القول الأخير إن أُخذ على إطلاقه ففيه نظر؛ فإنّ سورة البقرة مدنية وفيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[البقرة: 21]، وفيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا}[البقرة: 168]، وسورة النساء مدنيّة وفيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}[النساء: 1]، وفيها: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ}[النساء: 133] فإن أراد المفسّرون أنَّ الغالب ذلك، فهو صحيح؛ ولذا قال مكّي بن حموش: هذا إنّما هو في الأكثر وليس بعامّ، وفي كثير في سوَر مكّيّة {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا}.
وقال القاضي أبو بكر: كانت العادة تقضي بحِفظ الصّحابة ذلك، غير أنّه لم يكن من النبي (صلّى الله عليه وآله) في ذلك قول، ولا ورد عنه (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: ما نزل بمكّة كذا وبالمدينة كذا، وإنّما لم يفعله؛ لأنّه لم يؤمَر به، ولم يجعل الله عِلم ذلك من فرائض الأمّة .
وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم، لمّا لم يعتبروا ذلك من فرائض الدِين، لم تتوفّر الدواعي على إخبارهم به، ومواصلة ذلك على أسماعهم، وإذا كان الأمر على ذلك، ساغ أن يختلف مَن جاء بعدهم في بعض القرآن: هل هو مكّي أو مدَنيّ؟ وأن يعملوا في القول بذلك ضرْباً من الرّأي والاجتهاد...
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان