قرآنيات

البيّنة (2)

 

السيد موسى الصدر
نحن معلولات ومخلوقات لله، فالتوجه الذاتي الحقيقي عندنا توجه إلى الله، ما دام ذاتنا وحقيقتنا، أقصد ما أقول بالاصطلاح الفلسفي، ما دامت ذات الإنسان وخلق الإنسان منبثقًا من الله وشعاع من أشعة الله، لماذا نحن في الحقل العبادي في الأعمال الخارجية نعبد غير الله؟ فلنكن منسجمين مع ذاتنا ما دامت ذاتنا تستمد وجودها من الله فنحن نستمد قوتنا وخضوعنا وتوجهنا من الله سبحانه وتعالى. فإذًا، ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾ وهذا ذاتيتك وكرامتك وصراطك ﴿ويقيموا الصلاة﴾ وإقامة الصلاة مع الفوائد الكثيرة التي ذكرناها في أكثر من موضع تكريس لعبادة الله وتعويد للخروج عن طاعة من سواه لأن الإنسان، أرجو الانتباه لهذه الكلمة، لأن الإنسان في حياته العادية، نتيجة للحاجات الشكلية والمعاملات الخارجية وتقسيم الأمور والأشغال والكفاءات، قد يرى أنه يحتاج إلى شخص آخر؛ قد يرى أنه محتاج إلى صاحب مال أو صاحب علم أو صاحب قوة، ففي خلال حياته يخيل إليه أنه بحاجة إلى غير الله، في نهارنا خمس مرات نقف للصلاة. وفي الصلاة نخلص، ماذا تعني نخلص؟ يعني جميع أفعالنا وحركاتنا، سكناتنا، أقوالنا، قيامنا، قعودنا لله أليس كذلك في هذه الحالة؟


فنحن في خلال الصلاة بهذه الخمس دقائق نتدرب على الإخلاص لله ومن هذا نستمد ونستعين بالإخلاص في جميع حياتنا. فإذًا، الصلاة تكريس لعبادة الله وتحرير للإنسان وتدريب للإنسان بأن يكون متحررًا في حياته العادية. ويؤتي الزكاة، وإيتاء الزكاة يعني الشخص المتمكن يعطي لغير المتمكن، هذا أساس تكريم المجتمع، أساس حياة المجتمع، لأن المجتمع على أي أساس يقوم؟ لو كان أفراد البشر كلهم متساوون مئة في المئة مثل الأكواب أو مثل زجاجات "البيبسي كولا" مثلًا كل البشر كانوا شكلًا واحدًا، هل كان يتكون هناك مجتمع؟ أبدًا. المجتمع من أي شيء يتكون؟ من الأخذ والعطاء، يعني أنا أستعين بما عندك وأنت تستعين بما عندي، أنا أرفع وحشتي فيك وأنت ترفع وحشتك فيَّ، أنت تأخذ مني الخبز وأنا آخذ منك الزبد، أنت تأخذ مني القوة وأنا آخذ منك الفكر وهكذا... المجتمع يتكون من المبادلة والتعاطي، فإذا كان أفراد البشر متساوين مئة في المئة ما كان هناك بدونها مجتمع.


فإذًا، أساس تكوين المجتمع أن الإنسان صاحب المال يعطي من ماله لغير صاحب المال، الإنسان صاحب القوة يعطي من قوته لغيره، الإنسان صاحب الفكرة يعطي من فكرته، الإنسان صاحب كل كفاءة يعطي من كفاءته، فتتكون المجتمعات. فإذًا، المقصود من الدين خلق مجتمع متكامل متعاون ثم مجتمع مؤمن أبناؤه لا يؤمنون ولا يخضعون إلا لله. وهذا من صميم فطرة الإنسان.
فإذًا، بينة الأديان والأنبياء بينات توضح ما يرغب إليه الإنسان وما يحب الإنسان وما يتمناه الإنسان في حياته، ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾. حنفاء، حنفاء كما قلنا يعني مستقيمين كما ذكرنا، ﴿ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة﴾ وهذا هو دين القيّمة، طبعًا القيّم معناه واضح، القيّمة مؤنث من كلمة قيم، لماذا دين القيمة؟ قيل: يعني أن دين القيمة يعني دين الملة القيمة، وقال أحدهم أن قيمة جمع قيم بمعنى قائم. دين القائمين، دين المستقيمين، دين الصلحاء. وعلى كل حال، سواء أكان هذا أو ذاك، فالمعنى واضح يعني عبادة الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، دين المستقيمين في الطريق، الدين المتناسب مع فطرة الإنسان ولحقيقة الإنسان.
﴿إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية﴾ ما دام أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وله حق العبادة على الإنسان، وله فضل العبادة على الإنسان، فضل الخلق، ثم بعث له الدين لصالحه ولمصلحته ولتحريره من الشرك وعن الخضوع أمام مثله أو أمام أقل منه. انتبهوا، ما دام الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وله فضل الخلق ثم بعث الدين، والغاية من الدين، هي مسألة إصلاح شؤون الإنسان وتحرير الإنسان وكمال الإنسان وسعادة الإنسان ما دام هذا المقصد. فإذًا، الذي لا يؤمن وينحرف هذا شر البرية. شر البرية يعني شر الخليقة. برية مشتق من كلمة برأ. سبحان الله بارئ النسم، خالق، وبرية يعني خليقة، هؤلاء هم شر الخليقة، باعتبار أنهم تنكروا لذاتهم، تناسوا، ناقضوا أنفسهم ذاتهم بذاتهم ثم تنكروا لفضل الله ونعمته وانحرفوا وخضعوا لغير الله سبحانه وتعالى.


﴿ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية﴾ باعتبار أن عملهم منسجم مع ذاتهم، وتحرروا من عبادة غير الله، أصبحوا في درجة سامية، سموا وتحرروا وتقدموا وكانوا في طليعة الخلق.
﴿جزاؤهم عند ربهم جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا﴾ هذا الجزاء الذي يقال عنه أنه الجزاء المادي، ثم أكثر من هذا ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾ هناك نفوس وقلوب لا تقبل ولا تكتفي بالجنات والأنهار والنعمة المادية، فوق ذلك رضى الله ورضاهم عن الله، هذا الجو الطريف الذي تصفه هذه الكلمة المختصرة ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾ يعني يعيشون في أسمى درجات الرضى والاكتفاء والسعادة والارتياح. هذه الجنة المعنوية، الرضى المعنوي، النعمة المعنوية مقابل النعمة المادية.
﴿ذلك لمن خشي ربه﴾، هنا نقطة أحب أن أذكر لكم، هذه النقطة أنه في الأحاديث الواردة في التفسير، التفاسير التي هي من مؤلفات الشيعة موجودة بكثرة، لكن اليوم في دراستي لتفسير "الدر المنثور" لـ "جلال الدين السيوطي" وجدت نفس الحديث ينقل عن "ابن عساكر" عن بعض الأصحاب أن الرسول (ص) كان جالسًا مع أصحابه فأقبل "علي" عليه السلام فقال له: "يا علي" أنت وشيعتك هم خير البرية، والرواية وردت في أكثر من تعبير. تعبير خير البرية، أنك أنت وشيعتك ستقبلون على الله راضين مرضيين، عبارة ثانية؛ عبارة ثالثة أنهم على الحوض رواء الغر المحجلين، متوجين؛ عبارات مختلفة موجودة في جميع التفاسير. وبإمكاننا أن نعتبر أن هذا الحديث حديثًا متواترًا من جميع فرق المسلمين. وهذه الفكرة تثبت صحة طريقة أتباع "علي" (ع) ثم تثبت أن التشيع ليس شيئًا مختلقًا بعد رسول الله، وإنما التشيع كان فكرة قائمة في أيام رسول الله، هؤلاء الذين كانوا يتفاعلون مع "علي" ويستفيدون ويدرسون عند "علي" وتعاليم "علي" كانت تؤدي إلى تعمقهم في الإسلام والمفاهيم الإسلامية، وكانوا من كبار الصحابة، هؤلاء كانوا يسمون في أيام رسول الله "شيعة علي". هذه نقطة ولا شك أن هؤلاء خير ﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ ولكن نحن كما قلنا أن هذه التفاسير لا تقيد بل هي مصداق.


﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ مصداق له هؤلاء. وإن كان في الإسلام بإمكاننا أن نقول أن الطريق الصحيح هو هذا الطريق ولكن لا شك أن هؤلاء هم أفضل من آمن وعمل صالحًا، فإذًا، هم خير البرية.
النقطة الثانية تناسب تقسيم الناس إلى شر البرية وخير البرية بعد وجود هذه التوضيحات، ورد في كلامنا أن هذه الآية الكريمة تحاول أن تربط بين دعوة الأنبياء وبين مصلحة الناس وأن مصلحة الإنسان المادية والمعنوية في الإيمان بالله. فإذًا، إذا انحرف فقد ظلم نفسه ولا شك بأن الذي يظلم نفسه هو لا يستحق العطف والعناية ولهذا يعبر عنه القرآن الكريم بأنه شر البرية، و﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية﴾.
هذه خلاصة هذه الآيات المباركات في هذه السورة والنقاط التي وجدتها فيها، ولا شك أن ما فيها من النقاط والأبحاث والمعاني أكثر بكثير من المستوى الذي نحن ممكن نصل إليه، وكما قلنا نحن نعتقد أن القرآن كلما تعمق الإنسان فيه يفهم شيئًا جديدًا فإن للقرآن ظهرًا وبطنًا ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن وقد فسرنا هذا في أول التفسير بأن القرآن كلام الله ومستواه مستوى عالٍ. فالإنسان بمقدار ما يفكر فيه يكتشف منه اكتشافات جديدة. هذا الشيء الذي وصلنا إليه في هذه العجالة. ونسأل الله التوفيق وغفر الله لنا ولكم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد