قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

مجالات الاختبار في القرآن الكريم

 

الشيخ محمد مصباح يزدي

مثلاً التعبير عن الامتحان بعبارة: «ولَنَبلونَّكم» هو غير التعبير بكلمة: «نبتليَكُم»؛ فمجيء لام القسم ونون التأكيد الثقيلة في قوله: «ولنبلونَّكم» يُوحي بحتميّة الابتلاء.
 ونستطيع - بالنظر إلى الموضوع من زاوية معينة - أن نقسم مجالات الاختبار بهذه الكيفية:
الأول: الأمور المادية؛ فبعض الأمثلة التي يبينها القرآن الكريم للامتحان ترتبط بالأمور الماديّة؛ نحو قوله: « ولَنَبلُوَنَّكم بشيءٍ منَ الخوفِ والجُوعِ ونَقصٍ منَ الأموالِ والأنفُسِ والثَّمَرَات».
فالخوف، وانعدام الأمن، والجوع (وفي بعض الموارد العطش)، وفقدان الزوج والولد هي من هذا القبيل.
فإنَّ المقصود من «الثمرات» كما جاء في بعض الأخبار هو "الولد".
وكذا الحال بالنسبة لفقدان الأموال والممتلكات بالحريق أو الغرق في البحر أو الجفاف فكلّها وسائل للامتحان والاختبار.
إذن فإن جانبًا من هذه الامتحانات . وهي كثيرة وقد بُيّنت في القرآن الكريم بشكل متكرر - يتصل بالأمور المادية.


الثاني: الشؤون الفكرية والعقائدية:
فإنَّ بعض الابتلاءات ترتبط بهذا الجانب، مثل وساوس الشيطان وإلقاءاته التي يعتبرها القرآن هي الأخرى وسائل للاختبار والفتنة: "ليَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيطان فِتنَةً"
 وقد اهتمَّ القرآن الكريم بهذا البعد اهتمامًا بالغًا.
 وبناء على ذلك فإنَّ كلّ ما يُلقى من شُبهات ويُطرح من تشکیکات لزعزة عقائد النّاس الدينية وما يُنشر باستمرار من مواضيع عبر وسائل الإعلام الأجنبية ومواقع الشبكة العنكبوتية يندرج ضمن هذا السياق.
فهذه الأمور تُصَنَّف بها أنها فِتن دينية وفكرية وعقائدية. ويظهر أنّ هذا هو المراد من "الفتنة" في قوله تعالى: "والفتنة أشدُّ من القتل".
کما وأنَّ المقصود منها في قوله: (وقاتِلوهم حتّى لا تكون فتنة" هو هذا المعنى أيضًا.
 

الثالث: الفتن الاجتماعية:
إنَّ جانبًا من الفتن يتعلّق بالأمور الاجتماعية. فحتى وجود الأنبياء أنفسهم فهو يعدّ فتنة وامتحانًا للناس؛ كما في قوله عز من قائل:
وكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا
فالله سبحانه وتعالى قد بعث لفرعون راعي أغنام فقال الأخير لفرعون: أنا نبي وعليك أن تطيعني! فتبسَّم فرعون منه وقال له: لماذا أرسلك أنت ولست إلا راعيًا فقيرًا معوزًا ولم يبعث شخصًا آخر؟!
وحتى في زمان النبي فقد كانوا يقولون: "وقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ "؛ فلو أراد الله إرسال رسول فلماذا لم يرسل شخص عظيم؟
وقد كان مرادهم من "العظمة" هو الثراء والمكانة الاجتماعية المرموقة. قالوا: لماذا أرسل لدعوتنا شابًّا عاش معاناة اليتم منذ نعومة أظفاره.
فالله قد منَّ عليهم إذ اصطفاه من بين الجميع لهذه المهمة، لكنهم في المقابل سخروا منه، فهذا المورد وأمثاله هي من الامتحانات الإلهية. فالفتن الاجتماعية التي تؤدي إلى إضلال عدد ضخم من الناس وقد تستهدف أجيالًا متعددة، بل وقد تستمر آثارها إلى يوم القيامة هي من مصاديق الامتحانات والفتن العظيمة التي لها مراتب مختلفة من الضعف والشدّة والعظمة بحيث يتعين علينا أن نعيرها اهتمامًا خاصًّا کی تفلح فيها، فما يهمّ الطالب هو أن يجيب على أسئلة الدرس بشكل جيّد، لكن هذا الأمر قد يشغل باله إلى درجة نسيان حتى الجوع والعطش.
 فعندما يكون العالم بأسره ساحة للامتحان وتكون ظواهر الحياة كافة أدوات لهذا الامتحان فبأي رؤية يتحتّم علينا النظر إلى هذه الأمور وإلى أي مدى يجب أن يكون اهتمامنا بها.
 فلابد - على الأقل - أن نعرفها بالمقدار الذي يكون ضروريًّا لاجتياز الامتحان، وأن نفكّر في كل شيء من منطلق كونه متعلق بتكليفنا، مع أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أودع فيها بلطفه نوعًا من اللذة کی تکون جذابة لنا؛ لأنَّ العقل ليس هو المعيار باستمرار.