قرآنيات

سنّة الانتظار في القرآن الكريم (1)

الشيخ محسن الأراكي

 

وتعني سنّة الانتظار أنّ إرادة الله الّتي شاءت أن يقام «العدل العالميّ العامّ» على وجه الأرض بإرادة بشريّة، ضمن سنن «الابتلاء والاختبار»، و«الاستدراج»، و«التبديل والتغيير»، و«الإملاء والأخذ»، وبالتالي: سنّة «الاختيار والاستبدال»، إنّما تنفِّذ سنّة الاختيار والاستبدال الّتي بها ترشَّح الأمّة الصالحة الأخيرة «الاستخلاف الكبير»، من خلال تنفيذ «سنّة الانتظار» الّتي يتمّ فيها استعداد الأمّة الصالحة لقبول مسؤوليّة الاستخلاف الكبير، ويكمل تأهّبها لقيادة الأمم الأخرى، وإقامة مجتمع العدل العالميّ على وجه الأرض. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ (1).

﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ (2).

﴿... فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ (3).

 

﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ (4).

وفي الآية الأخيرة- كما في الآية الّتي قبلها- تأكيد على ما تؤول‌ إليه سنّة الانتظار من القضاء المبرم على عناصر الشرّ، من غير إمهال، ولا انتظار آخر، وذلك عندما يصل قطار الانتظار إلى محطّته الأخيرة:

﴿... يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ...﴾ (5).

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ.

فعندما يصل قطار الانتظار إلى محطّته الأخيرة، لا يُنتظَر بالكافرين، ولا بالمنافقين أجلًا آخر، ولا يُمهَلون مهلة أخرى.

 

ومن هنا يُعرف أنّ الانتظار انتظاران:

قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ.

الأوّل: انتظار المجموعة المؤمنة لوعد الله الصادق وآياته وبشاراته:

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ...﴾ (6).

والثاني: انتظار المجموعة الكافرة والمنافقة الّتي تكذّب بآيات الله ووعده، وتستهزئ بالمجموعة المؤمنة، وتتحدّاها في ما تؤمن به من وعد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وسننه الّتي لا تبديل لها، ولا تحويل، فتقول متحدَّية للجماعة المؤمنة:

﴿... مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (7).

﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (8).

 

وعندما يتحقّق الوعد الإلهيّ، فيرونه ماثلًا أمامهم، يحيق بهم ما كانوا به يستهزؤون، وتُضرب عليهم الذّلة الأبديّة، ويسقط ما في أيديهم، وتساء وجوههم. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ﴾ (9).

﴿... فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ (10).

ولسنّة الانتظار هذه، صلة بسنن القيادة الإلهيّة الّتي هي- بدورها- مجموعة من السنن الاجتماعيّة الإلهيّة الخاصّة بالقيادات‌ الإلهيّة، ومسؤوليّاتها المشتركة مع الجماهير، وعلاقاتها المتبادلة بالمجموعة المؤمنة من جهة، وبالمجموعة الكافرة والمنافقة من جهة أخرى. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ (11).

﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (12).

 

وهناك مسؤوليّة خاصّة تحمّلها الأنبياء السابقون على خاتم النبيّين، بإزاء هذا الرسول الخاتم للنبيّين، والمصدّق لما معهم أجمعين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَعَلَيْهِم. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (13).

هكذا أخذ الله الميثاق على جميع النبيّين السابقين على خاتم الأنبياء محمّد (ص) أن يؤمنوا به وأن ينصروه، وبما أنّ الإيمان بمحمّد (ص) يعني طاعته، كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (14) فميثاق الله الّذي أخذه على النبيّين، وأكّده هو أن يطيعوا محمّداً (ص) ويتّبعوه، وينصروه، وهذا هو السّرّ في ما نجد التأكيد عليه في السنّة النبويّة من نزول عيسى عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام في آخر الزمان، وبيعته مع وصيّ محمّد (ص)، الإمام القائم من آل محمّد عّجَّلَ اللَّهُ تَعَالى فَرَجَهُ الشَّرِيف، وطاعته له، ونصرته إيّاه، فإنّ طاعة عيسى ونصرته لوصيّ النبيّ محمّد (ص)، تجسيد عمليّ تاريخيّ للوفاء بهذا الميثاق الإلهيّ الّذي أخذه الله على الأنبياء بطاعة محمّد ونصرته (ص).

ومهما يكن من أمر، فإنّ هناك ميثاقاً مأخوذاً من النبيّين على طاعة محمّد (ص) ونصرته، وقد أخذ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من المؤمنين جميعاً نفس الميثاق؛ ميثاق الطاعة لمحمّد (ص)، وميثاق النصرة له:

 

أمّا ميثاق الطاعة، فقد أشار إليه قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ...﴾ (15).

وأمّا ميثاق النصرة، فقد أشار إليه قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (16).

ووفقاً لهذين الميثاقين (ميثاق الطاعة والنصرة مع الله، ورسله، وخلفاء الرّسل)، تجري مجموعة من سنن القيادة الإلهيّة (17)، ومن أهمّها: سنّتا «الظهور» و«الغيبة»، فسنّة الظهور تجري عندما تفي المجموعة المؤمنة بميثاقها مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فتعلن طاعتها ونصرتها للقيادة الإلهيّة، وتُنفِّذ ذلك ميدانيّاً، فإذا نصرت الأمّة القيادة الإلهيّة، وخضعت لطاعتها، وأثبتت عمليّاً وفاءها بهذا الميثاق الإلهيّ، ظهرت القيادة الإلهيّة، وقامت هي بدورها بنصرة المجموعة المؤمنة، وهدايتها، وترشيدها، والأخذ بها نحو قمم التطوّر والرّقي الدنيويّ والسعادة الآخرويّة، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه في خطبته المعروفة بالشقشقيّة؛ حيث قال فيها:

 

«أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها»(18).

فحضور الحاضر من الأمّة في ساحة نصرة القيادة الإلهيّة، وطاعتها لها، استدعى ظهور الإمام من غيبته السياسيّة، وحضوره في ساحة التصدّي لزمام القيادة السياسيّة، وهكذا الأمر بالنسبة للإمام الحسين (ع)؛ فإنّ إعلان الأمّة نصرتها وطاعتها له، استدعى خروجه من غيبته السياسيّة وحضوره في ساحة التصدّي الرسميّ لقيادة الأمّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. القرآن الكريم: سورة هود (11)، الآية: 121 و 122، الصفحة: 235.

2. القرآن الكريم: سورة السجدة (32)، الآيات: 28 - 30، الصفحة: 417.

3. القرآن الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 157 و 158، الصفحة: 149.

4. القرآن الكريم: سورة غافر (40)، الآيات: 82 - 85، الصفحة: 476.

5. القرآن الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 158، الصفحة: 150.

6. a. b. القرآن الكريم: سورة النور (24)، الآية: 55، الصفحة: 357.

7. القرآن الكريم: سورة الملك (67)، الآية: 25، الصفحة: 563.

8. a. b. القرآن الكريم: سورة السجدة (32)، الآية: 28، الصفحة: 417.

9. القرآن الكريم: سورة الملك (67)، الآية: 27، الصفحة: 564.

10. a. b. القرآن الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 7، الصفحة: 282.

11. القرآن الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 6، الصفحة: 151.

12. القرآن الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 7، الصفحة: 419.

13. القرآن الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 81، الصفحة: 60.

14. القرآن الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 285، الصفحة: 49.

15. القرآن الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 7، الصفحة: 108.

16. القرآن الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 111، الصفحة: 204.

17. راجع للتفصيل بهذا الشأن كتابنا:« سنن القيادة الإلهيّة في التاريخ».

18. نهج البلاغة: الخطبة 3، ص 56، طبعة الأعلميّ، بيروت.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد