قرآنيات

سنّة الانتظار في القرآن الكريم (2)

الشيخ محسن الأراكي

 

ومن جهة أخرى فإنّ سنّة الغيبة هي الّتي تنفَّذ بحقّ القيادة الإلهيّة عندما تعرض الأمّة عن طاعة القيادة الإلهيّة ونصرتها، فإنّ تقاعس الأمّة عن نصرتها للقيادة الإلهيّة، وعصيانها، وخذلانها لها، هو الّذي استدعى انكماش حضور القيادة الإلهيّة، ولجوئها إلى زاوية الغيبة السياسيّة، وذلك عندما لجأ الإمام الحسن المجتبى، ومن قبله أبوه أمير المؤمنين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا- بعد رحيل رسول الله (ص)- إلى زاوية البيت، واضطرّا إلى عدم التصدّي الرسميّ لقيادة الجماهير.

فسنّتا الغيبة والحضور سنّتان من سنن القيادة الإلهيّة، يتّبعان في التنفيذ الظروف الميدانيّة الّتي تحكم المجتمع البشريّ، وفي إطار هاتين السنّتين، وعلى ضوء التعامل الّذي تلقّته القيادة الإلهيّة من قبل الجماهير من جهة، ومن قبل الطغاة من جهة أخرى، تتحدّد مواقف القيادة الإلهيّة، واستراتيجيّتها على مستوى الغيبة أو الظهور؛ فكلّما ضعفت الجماهير أمام الطغاة، واستسلمت لهم، حتّى أدّى الأمر بالطغاة إلى أن يضيّقوا الخناق على القيادة الإلهيّة، ويسلبوها فرصة التصدّي المعلن لقيادة الجماهير، انكمشت دائرة الحضور القياديّ‌ للإمامة الإلهيّة، وانحسر حضورها، ولجأت إلى ركن الغيبة، وكلّما عادت الجماهير إلى صوابها، وقويت عزيمتها، واكتملت أهبتها لطاعة القيادة ونصرتها في مواجهة الجماهير، عادت القيادة الإلهيّة إلى الظهور، واتّسعت دائرة حضورها القياديّ بين الجماهير.

 

وغيبة القيادة الإلهيّة ليست بنمط واحد، بل تتكيّف وفقاً لظروف المواجهة مع الطغاة:

فقد تكون غيبة القيادة الإلهيّة غيبة مكانيّة، وذلك عندما تسلب عن القيادة الإلهيّة فرصة التصدّي لقيادة الأمّة في مكان مّا، وتتوفّر في مكان آخر؛ كما حصل لرسول الله (ص) عندما هاجر من مكّة إلى المدينة، فغيبته عن مكّة كانت غيبة مكانيّة؛ إذ انتفت إمكانيّة ممارسته لدوره القياديّ في مكّة، بعد أن اجتمعت قريش على قتله فيها؛ ولكن توفّرت فرصة العمل في المدينة، فانتقل إليها، وهكذا الأمر بالنسبة لإبراهيم عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام، عندما قال قومه:﴿... اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ...﴾ (1)، فلم تعد بابل- بعدئذٍ- المكان المناسب لممارسة دوره القياديّ، بعد أن اجتمع قومه وطغاتهم على قتله فيها، فانتقل منها إلى فلسطين. وهكذا، تحقّقت سنّة الغيبة المكانيّة للقيادة الإبراهيميّة عن مدينته الأولى بابل، بعد أن ضاقت به ذرعاً، وذبلت فيها كلّ الفرص الممكنة لممارسة القيادة الإلهيّة دورها مع الجماهير.

وقد تكون غيبة القيادة الإلهيّة غيبة عن بعض أدوارها، عندما تمتنع عليها ممارسة ذلك الدور الخاصّ في ظروف اجتماعيّة وسياسيّة معيّنة، فتؤجّل ممارستها لذلك الدور إلى حين توفّر الإمكانيّة اللازمة لذلك. ويمكن التعبير عن هذه الغيبة «غيبة التعليق»، أو «غيبة التجميد»؛ وذلك لأنّ القيادة الإلهيّة تؤجّل القيام ببعض أدوارها القياديّة في مقطع زمنيّ معيّن، فتعلّق القيام به إلى حين تجدّد الإمكانيّة والفرصة المناسبة، وهذا ما حصل بالفعل بالنسبة لبعض القيادات الإلهيّة على مدى التاريخ.

 

ومن أوضح الأمثلة لذلك: ما قام به أمير المؤمنين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه بعد رحيل رسول الله (ص) من تأجيل ممارسة القيادة السياسيّة، والاكتفاء بممارسة القيادة الفكريّة والعلميّة، حتّى استعادة الأمّة صحوتها، واستعدادها لطاعته ونصرته على الصعيد السياسيّ؛ كما حصل بعد مقتل عثمان.

وقد ورد في الحديث عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع) بشأن ممارسة النبيّ (ص)، وكذا أمير المؤمنين (ع) لغيبته التعليق: «عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرُّمَّانِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا (ع)، فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع)؛ لِمَ لَمْ يُجَاهِدْ أَعْدَاءَهُ خَمْساً وَعِشْرِينَ سَنَةً بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (ص)، ثُمَّ جَاهَدَ فِي أَيَّامِ وِلَايَتِهِ؟! فَقَالَ (ع): لِأَنَّهُ‌ اقْتَدَى بِرَسُولِ اللَّهِ (ص) فِي تَرْكِ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبِالْمَدِينَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْراً، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ أَعْوَانِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ (ع) تَرَكَ مُجَاهَدَةَ أَعْدَائِهِ لِقِلَّةِ أَعْوَانِهِ عَلَيْهِمْ ...» إلى آخر الرواية (2).

 

وقد تكون الغيبة غيبة زمانيّة مطلقة، وذلك عندما يصادر الطغاة كلّ فرص العمل من القيادة الإلهيّة، فيمتنع عليها مطلق الظهور العلنيّ في الساحة بكلّ ألوانه وأنواعه، فيمتنع على القيادة الإلهيّة كل ممارساتها القياديّة، حتّى على المستوى الفكريّ والعلميّ، فهنا تنفّذ سنّة الغيبة المطلقة إلى حين يتاح للقيادة الإلهيّة القيام بدورها القياديّ، فتعود إلى الساحة من جديد، وتنفّذ- حينئذٍ- في حقّها سنّة الظهور.

وهذا ما حصل بالفعل لموسى عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام عندما وكز ذلك الفرعونيّ انتصاراً لأحد المؤمنين من شيعته، فجاءه رجل من أقصى المدينة يسعى، قال:﴿... يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ (3) فخرج من المدينة خائفاً يترقب، فغاب عن جماهيره غيبة مطلقة، في مرحلة زمنيّة محدّدة إلى أن تتاح له الفرصة لممارسة دوره القياديّ.

 

وهذا ما قد حصل بالفعل عندما رأى ناراً، فقال لأهله:

﴿... امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ...﴾، (4) فرجع منها، وهو رسول من الله يحمل أعباء القيادة الإلهيّة، مبعوثاً إلى قومه؛ لكي ينجيهم من بأس فرعون وبطشه، ولكي يطيح بعرش الطاغية فرعون، ويقيم بدلًا عنه مجتمعاً إلهيّاً عادلًا، تحكمه شريعة الله.

فغيبة موسى عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام عن بني إسرائيل- فترة لجوئه إلى مدين- كانت غيبة زمنيّة مطلقة للقيادة الإلهيّة، انتظرت فيها القيادة الإلهيّة من جهة، وبنو إسرائيل من جهة أخرى، عصر الظهور الّذي يتاح فيه للقيادة الإلهيّة أن تعود إلى جماهيرها، فتمارس دورها القياديّ المطلوب لإقامة حكم الله في الأرض.

 

وعلى هذا الأساس، فسنّة الغيبة الّتي تحكم القيادة الإلهيّة في ظروف معيّنة تقترن دائماً بسنّة الانتظار، السنّة الّتي ينتظر فيها الإمام وأتباعه من جهة توفر الظروف المناسبة لقيام القيادة الإلهيّة بدورها القياديّ المطلوب، وتحقّق الوعد الإلهيّ بانتصار المجموعة المؤمنة على طغاة الأرض، ومن جهة أخرى: ينتظر فيها أعداء الله حلول الوعد الّذي وعد الله عباده المؤمنين بالنصر، مستهزئين بالمجموعة المؤمنة إيمانها بالغيب وبالوعد الإلهيّ، قائلين أحياناً: ﴿... مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾(5) ؟! وأحياناً أخرى:﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (6)؟!

وهذا الوعد الّذي يسألون عنه باستهزاء، هو ذلك الوعد الّذي أخبر عنه ربّنا؛ حينما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ...﴾ (7). وهو نفسه وعد الآخرة الّذي أشار إليه في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: ﴿... فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ...﴾ (8).

ويأتي الردّ على هؤلاء المستهزئين- على لسان القرآن الكريم- حاسماً وصريحاً: ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ (9).

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1. القرآن الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآية: 24، الصفحة: 399.

2. الوسائل، أبواب جهاد العدوّ، الباب 30، الحديث: 1.

3. القصص 20

4. طه 10

5. الملك 25

6. القرآن الكريم: سورة السجدة (32)، الآية: 28، الصفحة: 417.

7. القرآن الكريم: سورة النور (24)، الآية: 55، الصفحة: 357.

8. القرآن الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 7، الصفحة: 282.

9. السجدة 29-30

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد