قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

الحلم والغضب في القرآن الكريم (2)

وأمّا الآيات التي تستعرض الحلم من موقع الثناء والتمجيد والمدح فهي كالتالي:

«الآية الرابعة ووالآية الخامسة» من الآيات محل البحث يستعرض القرآن الكريم حالات النبي إبراهيم عليه ‌السلام من موقع وصفه بعنوان: (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) و(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)، فالعبارة الأولى وردت في واقعة رفض آزر (عم إبراهيم) لدعوة إبراهيم للتوحيد ورفض الأصنام واستغفار إبراهيم عليه‌ السلام له، والثانية وردت في قصّة إخبار الملائكة لإبراهيم عن العذاب الإلهي النازل على قوم لوط وطلب إبراهيم الخليل عليه ‌السلام من الله تعالى أن يخفّف عذابهم أو يمهلهم أكثر من ذلك.

«أوّاه» تأتي بمعنى الرحيم والحنون، والذي يتحرّك قلبه لهداية قومه وأمّته.

وعلى أيّة حال فإنّ ما ورد في القرآن الكريم من وصف النبي إبراهيم عليه ‌السلام بــ (أواه حليم) و(أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) يبيّن الرابطة الوثيقة بين هاتين الصفتين، ويدلّ على أنّ كظم الغيظ والسيطرة على الغضب والتحرّك من موقع الحلم والمحبّة تجاه الآخرين حتّى لو كانوا مجرمين والسعي لإنقاذهم من الخطيئة والعقوبة كل ذلك يعدّ من الصفات الإيجابية البارزة للأنبياء الإلهيين.

 

إنّ النبي إبراهيم عليه ‌السلام لم يكن حليماً تجاه عمّه آزر فحسب، بل حتى بالنسبة إلى قوم لوط عليه ‌السلام الذين كانوا قد غرقوا في ذلك الوحل العفن من الخطيئة حيث نرى إبراهيم عليه ‌السلام ينطلق من قلب متحرّك ليرفع عنهم العذاب أو يؤجله إلى إشعار آخر كيما يتسنى لهم الخلاص من أدران هذه الخطيئة وترك ذلك السلوك الشائن ويسيروا في خط الإيمان والتقوى والانفتاح على الله.

ولكنّ الأمر الإلهي كان قد صدر بحقهم رغم أنّ إبراهيم عليه ‌السلام قد أظهر هذه الرحمة والشفقة تجاه عمّه أو قوم لوط لأنّهم لم يكونوا قابلين للهداية وخاصة ما كان عليه قوم لوط من الخطيئة المزمنة حيث أصابهم العذاب الإلهي أخيراً.

«الآية السادسة» تستعرض إحدى المواهب الإلهية الكبيرة على إبراهيم وتقول: إنّ الله تعالى قد استجاب لإبراهيم عليه ‌السلام دعائه: (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ).

واللطيف أنّ من بين جميع الصفات الإيجابية الكبيرة للإنسان، فإنّ هذه تشير فقط إلى صفة الحلم لدى هذا الغلام العزيز لإبراهيم عليه‌ السلام.

ويقول الراغب في مفرداته بأنّ: الحلم بمعنى ضبط النفس عند هيجان الغضب، وبما أنّ هذه الحالة ناشئة من العقل فإنّه كلمّا وردت كلمة الحلم فإنّها قد يراد بها العقل أيضاً.

وهذه البشارة تحقّقت بالنسبة إلى إسماعيل عليه ‌السلام عند ما بلغ سن الرشد ووهبه الله العقل والحلم والنضج الكبير، وذلك عند ما صدر الأمر الإلهي لإبراهيم بذبح إبنه إسماعيل كما تتحدّث الآيات التي بعد هذه الآية وتقول على لسان إسماعيل عليه‌السلام: (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) فنرى حالة التسليم المطلق أمام الأمر الإلهي، وفي مقابل الذبح الذي صدر لإبراهيم.

 

وتأتي «الآية السابعة» لتبيّن صفات (عباد الرحمن) البارزة، وتستعرض ضمن الحديث عن إثني عشر صفة من الصفات الكبيرة الأخلاقية وهذه الصفة خاصة وتقول: (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً).

أي إذا واجههم الأشخاص الذين يعيشون الحمق والجهل والحقد بكلام غير مسؤول وألفاظ ركيكة فإنّ جوابهم لا ينطلق من موقع الانفعال والرد بالمثل، بل يمرّون على كلامهم ذلك من موقع الحلم وسعة الصدر ورغم أنّ كلمة (حلم) لم ترد في هذه الآية، ولكن المفهوم من مجموع الآية هو أنّ عباد الرحمن لا ينطلقون من موقع الانفعال والغضب للجاهلين الحوادث غير الملائمة وخاصة الكلمات غير المسؤولة للجاهلين والحاقدين ويجنبوا أنفسهم شرّ النزاع والصراع مع هؤلاء الأشخاص بأداة الحلم وسعة الصدر.

وقد ورد في الحديث الشريف في تفسير هذه الآية عن النبي الأكرم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله أنّه قال يوماً لأصحابه (مضمون الحديث): «هؤلاء جماعة من أمّتي أحبُّهُم وَيُحبُّونني سيأتون بعدكُم (ثم أخذ النبي الأكرم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله بذكر أوصافهم) ومن ذلك صفة الصبر والحلم وأنّهم يسلكون طريق الرفق والمداراة.

فقيل له: يا رسول الله هل يرفقون بغلمانهم؟

فقال صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله: ليس لهم غلمان، وإنّما يرفقون مع الجهّال والسفهاء: (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً»»)(1).

 

والمراد من كلمة (سلام) هنا هو أنّهم يتعاملون مع الآخرين من موقع المسالمة لا من موقع الخشونة والتحدّي والرد بالمثل ولا يواجهون كلمات غير مسؤولة لأولئك الجاهلين إلّا من موقع عدم الاعتناء واللّامبالاة وكأنّما لم يسمعوها أصلاً.

«الآية الثامنة» والأخيرة من الآيات مورد البحث من سورة الأعراف تتحدّث عن ثلاثة أوامر مهمّة في خطابها للنبي الأكرم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله (باعتباره أسوة لجميع المؤمنين) وتقول: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ).

ومن الطبيعي أنّ الإعراض عن الجاهلين يأتي بمعنى الحلم والصفح وترك أي شكل من أشكال الخصومة والشجار، بل يمكن القول إنّ الجملتين السابقتين في هذه الآية من الأمر بالعفو وقبول العذر والدعوة إلى الأخلاق الحسنة هي نوع من أنواع الحلم كذلك، وبالتالي تدلّ وتشير إلى هذا المعنى أيضاً وأنّ سيرة النبي الأكرم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله كانت كذلك في مقابل الجاهلين والمعاندين حيث كان يظهر أمامهم منتهى الصبر وسعة الصدر والتحمّل والحلم، ولا يتملكه الغضب إطلاقاً مقابل ما يسمعه منهم من كلمات غير مؤدّبة وعبارات غير مسؤولة.

والآية التي تلي هذه الآية تقول: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(2).

يمكن أن تكون إشارة أخرى إلى هذا المعنى أيضاً وهو أنّ نار الغضب ما هي إلّا نزغ من نزغات الشيطان وعلى كل مؤمن أن يستعيذ بالله من هذه الحالة الشائنة.

 

والشاهد على ذلك ما ورد في الرواية الشريفة في تفسير روح البيان في ذيل هذه الآية وأنّه عند ما نزلت الآية السابقة وأمرت بالعفو والحلم أمام الجاهلين قال النبي الأكرم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله: «كَيفَ يا رَبِّ والغَضبُ» (3).

فنزلت الآية التي بعدها وأمرت النبي أن يستعيذ بالله من شرّ الشيطان الرجيم.

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه ‌السلام يقول: إنّ أجمع آية من آيات القرآن لمكارم الأخلاق هي هذه الآية.

وهو كذلك واقعاً، لأنّ هذه الآية تتضمّن العفو والصفح أمام جهل الآخرين وتدعو الناس جميعاً لفعل المعروف، وكذلك مواجهة الجاهلين بالإعراض عنهم وعدم مجادلتهم والتحدّث معهم من موقع الانفعال، فهذه التعاليم الثلاثة تعد ثلاثة برامج مهمّة فيما يتعلّق بالحياة الاجتماعية للإنسان في حركة الحياة بحيث لو تسنى لأفراد المجتمع أن يترجموا هذه الدساتير الثلاثة على أرض الواقع ويجسّدوها في سلوكياتهم وأعمالهم فإنّ أكثر المشكلات الاجتماعية وما يترتب عليها من سلبيات أخرى ستجد طريقها إلى الحل.

ومن مجموع الآيات المذكورة آنفاً يتجلّى لنا أهميّة الحلم كفضيلة أخلاقية سامية، وكذلك العواقب الوخيمة المترتبة على حالة الغضب الانفعالي والشيطاني.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. تفسير منهج الصادقين ، ج 6 ، ص 417 ، طقباً لنقل تفسير الاثني عشري في ذيل الآية المبحوثة ؛ وتفسير روح البيان ، ج 6 ، ص 241 أيضاً ذيل الآية المبحوثة.

2. سورة الأعراف ، الآية 200.

3. تفسير روح البيان ، ج 3 ، ص 298 في ذيل الآية المبحوثة.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد