قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

رحلة الشهادة في القرآن الكریم (3)

رحلة الشهادة في القرآن الكریم في سورتي التوبة و آل عمران

 

سورة آل عـمران:

وفي سـورة آل‌ عمران‌ نلتقي‌ هذه اللوحة القرآنیة عـن الشهید والتي تستوقف الإنـسان طـویلاً، وتخرجه من دائرة تصوّراته البشریة المـحدودة عـن الموت والحیاة إلى أفق واسع جدید لم تعهده تصوّراتنا المحدودة عن‌ الموت‌ والحیاة‌ وتعطي للحـیاة مـعنی جدیدًا لا تعرفه التصورات الجاهلیة للإنـسان.

وهـا‌ نـحن‌ نتلو معا هـذه الآیـات المباركات من سورة آل عـمران: ﴿ولا تـحسبنّ الذین قُتلوا فی‌ سبیل‌ اللّه‌ أمواتًا بل أحیاء عند ربّهم یُرزقون * فرحین بما آتـاهم اللّه مـن‌ فضله‌ ویستبشرون‌ بالذین لم یلحقوا بهم مـن خـلفهم ألاّ خوف عـلیهم ولا هـم یـحزنون * یستبشرون‌ بنعمة‌ من‌ اللّه وفـضل وإن اللّه لا یضیع أجر المؤمنین * الذین استجابوا للّه والرسول من‌ بعد‌ ما أصابهم القرح للذین أحسنوا منهم واتـقوا أجـر عظیم * الذین قال لهم‌ الناس‌ إنّ‌ النـاس قـد جـمعوا لكـم فاخشوهم فزادهم إیـمانًا وقـالوا حسبنا اللّه ونعم الوكیل * فانقلبوا‌ بنعمة‌ من اللّه وفضل لم یمسسهم سوء واتبعوا رضوان اللّه واللّه ذو فضل عظیم‌ * إنّما ذلكم الشـیطان یـخوّف أولیـاءه فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنین﴾ (آل عمران: 169 ـ 175‌).

 

الحیاة الطیّبة:

والحقیقة الأولى‌ فـي هـذه اللوحـة القـرآنیة:

إن الذیـن قُتلوا في سبیل اللّه أحیاء‌ ولیسوا‌ بأموات‌، والنهي عن تصوّر أنّ الشهداء أموات: ﴿ولا تحسبنّ الذین قُتلوا في سبیل‌ اللّه‌ أمواتًا‌...﴾، إنّ المسألة لیست من المجاز في التعبیر، وإنّما‌ هي‌ حقیقة داخلة في حیّز النفي والإثبات: النهي عن حسبان الشهداء أمواتًا، وإثبات أنّهم‌ أحیاء‌، وهذا تصور جدید علی الذهنیة المادیة تمامًا.

لیست الحیاة هي فقط‌ هذه‌ الفرصة وهذه الرقعة الضـیّقة التـي یعیشها الإنسان‌ في‌ هذه‌ الدنیا.

ولیست الحركة الحیوانیة التي یمارسها الإنسان في هذه الدنیا من أكل وشرب، وتسابق‌ علی‌ متاع الحیاة الدنیا وزخرفها، ونشاط‌ وحركة فی‌ حقل‌ الغرائز‌ الحیوانیة هـی المـؤشر والمقیاس الوحید للحیاة‌. فهذه رقعة صغیرة للحیاة، محدودة الأمد، قصیرة المدی، حافلة‌ باللهو‌ واللعب. إنّ ما بأیدي الناس‌ هنا سراب بقیعة یحسبه‌ الظـمآن‌ مـاءً، ولیس من الحیاة‌ في‌ شـيء، أمـا النبع الصافي والزلال للحیاة فشيء آخر، یختلف تمامًا عمّا‌ یعرفه‌ الناس، واللّه تعالى ورسوله‌ یدعوانا‌ إلى‌ الحیاة الطیبة الحقیقیة‌: ﴿یا أیّها‌ الذین‌ آمنوا استجیبوا للّه وللرسول إذا دعـاكم لمـا یحییكم...﴾ (الأنفال‌: 24).

وهذا الذي یدعونا‌ إلیـه‌ اللّه تـعالى ورسوله من الحیاة شيء‌ آخر‌ غیر ما‌ یتنافس‌ علیه‌ الناس؛ من اللهو‌ واللعب، والتفاخر، والزینة، وما یشوبه من البعد عن اللّه والبغضاء، والمعاصي‌ والذنوب‌، والاستغراق في متاع الحیاة الدنیا‌، والتعلّق‌ بـها‌، وحـیاة الذل والهوان‌ والعبودیة‌ لغیر اللّه، والاستسلام للأهواء والشهوات.

إنّ الحیاة في التصور الإسلامي انطلاق من القیود والأغلال، وتحرر‌ من‌ أسر الهوی والشهوات، وخروج من ذل‌ الانقیاد‌ والاستسلام‌ للطغاة‌ إلى‌ عزّ‌ العبودیة للّه تعالى؛ والحیاة فـي هـذا التصوّر الجـدید علی البشریة تحرر من كل تعلق بالدنیا، لا بمعنی ترك الدنیا ولذّاتها، فإنّ الإنسان المؤمن یأخذ‌ نصیبه مـما خلق اللّه من الطیّبات كالآخرین أو أفضل من الآخرین، إلاّ أنّه لا یقع في قـبضة التـعلق بـالدنیا ولا تتحكم فیه ولا یكون مصداقًا لقوله علیه‌ السلام: ﴿حب الدنیا رأس كل خطیئة﴾ (بحار الأنوار 51: 258).

إنّ ما بأیدي الناس من الحیاة لیـس ‌مـن الحیاة في شيء، وإنّما هي أقرب إلى حیاة البهائم منها إلى حیاة الإنسان‌. أما الحـیاة الحـقیقیة فـهي التي اختارها اللّه للصالحین من عباده فی الدنیا والآخرة وهي (الحیوان) في الآخرة. ﴿...وإن‌ الدار‌ الآخرة لهـي الحیوان لو كانوا یعلمون﴾ (العنكبوت: 64) والحیوان مبالغة في الحیاة، إنّها الحیاة الحافلة بلقاء اللّه والإیـمان، والحب‌، والشهود، والصدق، والطـیّبات‌، وفي أفق واسع عریض وعلی مدی الخلود والأبدیة، حیاة الروح والجسم والعقل معًا، والشهید في حركته الصاعدة إلى اللّه ینتقل من هذه الرقعة الضیقة من الحیاة الفانیة‌ والمؤقتة‌ إلى ذلك الأفق الرحیب من الحیاة، ومن هذه المـشوبة بالأكدار والابتلاءات إلى النبع الصافي الزلال من الحیاة، ولیس إلى الموت والركود والغیاب كما یتصوره الناس.

 

أعلی درجات القرب‌ من‌ اللّه:

﴿عند ربّهم﴾ وهذه الفقرة تدخل لتكمل صورة هذه الحیاة الحقیقیة التی ینتقل إلیها الشهید فـي مـسیرته‌ إلى اللّه تعالی. إن غایة حركة الشهید إلى اللّه، وهذه‌ الغایة‌ هي كل قیمة الحیاة، وتكتسب الحیاة قیمتها الحقیقیة عندما تقترن بالقرب من اللّه وتوصل الإنسان إلیه ‌‌وتجعله‌ بجواره، أما عندما تنقطع الحیاة من التحرك إلى اللّه ومـن قـربه ومن‌ التوجه‌ إلیه‌ فهي سراب وضیاع له في متاهات الدنیا، واستغراق في متاعها وحطامها.

إنّ غایة الإنسان‌ في مسیرته وحركته الكادحة الكبری في الدنیا هي القرب من اللّه ولقاء اللّه‌، وهي الغـایة التـي یسعی‌ إلیها الشهید ﴿یا أیّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحًا فملاقیه﴾ (الانشقاق: 6).

وما یحقق الإنسان في الدنیا من هذه الغایة هو قیمته ودرجته، والقرب من اللّه هو‌ المقیاس الذي یقیس به الإسـلام أقـدار النـاس ومراتبهم؛ والناس في القرب والبـعد مـن اللّه درجـات ومراتب... حتی یكون الإنسان (عند اللّه)، فلا تكون ثمة درجة أقرب‌ إلى‌ اللّه منه إلى اللّه. ولا تجد في اللغة تعبیرًا أقوی وأبلغ في (القرب) مـن كـلمة (عـند) وكأنّ الفواصل تنعدم في هذه الدرجة من القـرب، وحـاشا ربّنا من ملابسة خلقه وعباده وتبارك وتعالى من أن یرتفع عباده إلى مستوی كبریائه وعزه وجلاله، ولكنّه تعبیر بلیغ عن أقـرب‌ درجـات‌ القـرب إلى اللّه؛ وقد ورد فی الحدیث عن رسول اللّه صلی ‌الله ‌علیه ‌و‌آله: «فوق كلّ برٍّ بـرٌّ حتی یقتل الرجل في سبیل اللّه، فإذا قُتل فی سبیل‌ اللّه‌ عزّ‌ وجل، فلیس فوقه برّ» (بحار الأنوار 100: 10). وروي عنه صلی ‌الله ‌علیه ‌و‌آله: «فـوق كـلّ ذی بـرّ برٌّ حتی یُقتل الرجل فی سبیل اللّه فلیس فوقه برّ» (بحار‌ الأنوار‌ 74‌: 61).

إنّ‌ كـلمة‌ (عـند ربّهم) لتستوقف الإنسان طویلاً! أیبلغ‌ الأمر بالعبد الوضیع أن یكون (عند ربّه) هكذا من دون فواصل ومراحل، وبـمثل هـذه الدرجـة من‌ القرب‌ (عند ربّه)، وتعالی اللّه عن ملابسة مخلوقاته علوًّا‌ كبیرًا. وقد ورد مـثل هـذا التـعبیر في القرب من اللّه فی سورة القمر بالنسبة إلى المتقین: ﴿إنّ‌ المتّقین فی جنات ونهر * فـی مـقعد صـدق عند ملیك مقتدر﴾ (القمر: 54 ـ 55). وفي المناجاة الشعبانیة: «إلهي هب لي كمال الانقطاع إلیك، وأنر أبصار‌ قـلوبنا‌ بـضیاء‌ نظرها إلیك، حتی تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى‌ معدن‌ العظمة» (مفاتیح الجنان: 158. مناجاة‌ الأئمة‌ عـلیهم ‌السلام‌ فـی شـعبان).

وحـالة «كـمال الانـقطاع إلى اللّه تعالى» هي التي توصل‌ الإنسان‌ إلى‌ معدن العظمة، وتخرق له حجب الظلمة والنور إلى اللّه تعالی؛ وفـي المـناجاة‌:

«إلهي فاسلك بنا سبل الوصول إلیك، وسیّرنا في أقرب الطرق للوفود علیك» ( بحار الأنوار 94: 147).

ولیـس مـن أحـد تنطبق علیه هذه الفقرات أكثر من الشهید، فهو یسلك إلى‌ اللّه‌ تعالی أقرب الطرق، ولیـس مـن طریق أقرب إلى اللّه من الشهادة ثم‌ یفد‌ علی‌ اللّه تعالى.

یقول أمیر المؤمنین علیه ‌السلام: «إن للّه عـبادًا فـي الأرض كـأنّما‌ رأوا‌ أهل الجنة في جنتهم، وأهل النار في نارهم‌، یجأرون إلى اللّه سبحانه بأدعیتهم، قد حلا في أفـواههم، وحـلا في قلوبهم طعم مناجاته‌، ولذیذ الخلوة به، قد أقسم اللّه علی نفسه بجلاله وعزّته لیورثنّهم‌ المقام‌ الأعـلی فـي مقعد صدق عنده» (تفسیر البصائر 42: 391). هؤلاء‌ هم‌ الذین یورثنهم اللّه المقام الأعلی، ویرزقهم‌ اللّه‌ جـواره فـي الجنة ویسكنهم في مقعد صدق عنده، وهـم الذیـن یـفدون علی‌ اللّه‌.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد