قرآنيات

من هو المنافق؟

الشيخ محمد جواد مغنية

 

المنافقون الآية 8 - 20 :

ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الآخِرِ وما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهً والَّذِينَ آمَنُوا وما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ولَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ولكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ ولكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ويَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20).

ذكر سبحانه المؤمنين أولاً، وهم الذين أخلصوا للحق قلبًا وقالبًا، وثنّى بالكافرين الذين محضوا الكفر باطنًا وظاهرًا، والآن جاء دور المنافقين الذين تظاهروا بالإيمان، وما هم بمؤمنين، وكفر هؤلاء أخبث الكفر، وأبغضه إلى اللَّه، ولذا أطنب بأوصافهم، وما يؤول إليه حالهم بثلاث عشرة آية بينما اقتصر في وصف الكافرين على آيتين، بل أنزل سورة خاصة بالمنافقين.. وهذه الآيات واضحة الدلالة، لا تقبل التأويل، ولا تحتاج إلى تفسير، تمامًا كقوله سبحانه: «واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».

 

من هو المنافق؟

كلّ منّا يريد أن يكون شيئًا مذكورًا عند الناس، وعلى الأقل أن لا ينتقدوه في تصرفاته، ولا يتناولوه بالذم في ألسنته ، بخاصة إذا كان نجاحه في عيشه ومهنته يتوقف على ثقة الناس به.. ومن أجل هذا ينبغي الشك والريب في دخيلة كلّ إنسان من هذا النوع، وإن لم يبد من أمره ما يريب.. إنه معرّض دائمًا للخداع والرياء حرصًا على مصلحته، ولولا إطلاق الدليل لاستثنيته من قاعدة «حمل فعل المسلم على الصحة» (1).

ومهما يكن، فإن كل من يؤثر الاستخفاء من الناس، ويتظاهر بما ليس فيه، ويخشى أن ينكشف الستر عن حقيقته فهو كذاب منافق، ومراء مخادع، حتى ولو حاز على ثقة الناس أجمعين، بل إن هذه الثقة تضاعف من جريمته، وتكون وبالاً عليه عند اللَّه، والناس أيضًا إذا انكشفت عنه حجب الخداع.

وتسأل: إذا اعتقد الناس أن فعلاً من الأفعال محرم، واعتقد شخص بينه وبين اللَّه أنه مباح لا ضير فيه، وتعاطاه في الخفاء خوفًا من كلام الناس، فهل يعد منافقًا ومرائيًا، ثم هل يجب عليه أن يبين لهم ما يعتقد، ويكون مسؤولاً لو سكت عن خطأهم؟.

 

الجواب: لا بأس عليه في فعل ما يعتقد بإباحته، ولا يعد من المنافقين والمراءين ما دام مرتاح الضمير، لأن تكليفه الخاص يرتبط بوجدانه، وليس بوجدان الناس.. بل يعذر في الخطأ، إذ لا جرم ولا عيب في الخطأ، أما بيان الحقيقة فيجب عليه من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأن المفروض أنه خطأ في معرفة الحكم، لا في تشخيص الموضوع (2).

وبعض الآيات تحدثت عن المنافقين الذين قامت الحجة عليهم بنبوة محمد (ص)، وإثبات الحق، ومع ذلك أصروا على الإنكار عنادًا وتمردا، كما قامت على المشركين الذين عاندوا وحاربوا، والفرق أن المشركين أعلنوا معاندتهم للحق، وقالوا بجرأة وصراحة: لا نتبع الحق لأن الفقراء اتبعوه واعتنقوه:

«قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ - الشعراء 111». أما المنافقون فإنهم رفضوا الحق لهذا السبب أو لمثيله، ولكنهم آثروا العناد، وأظهروا التسليم جبنًا وخداعًا فكانوا أسوأ حالاً من الكافرين، حيث لاءم هؤلاء بين ظاهرهم وباطنهم، وصدّقوا في إعلان الكفر والعناد، تمامًا كمن يشرب الخمر على قارعة الطريق، وخالف المنافقون بين ما أضمروا وأظهروا، كالسفاح يلبس مسوح القديسين.

 

ولا دلالة لهذا الخداع إلا أن المنافق لا وازع له من دين أو عقل، ولا من حق أو عدل، ولا يتحرك ضميره لشيء ما دام بعيدًا عن أعين الناس، ومن كان هذا شأنه فمن الصعب أن يؤوب إلى خير. ولذا نعت اللَّه المنافقين في بعض الآيات بالخديعة والغفلة ومرض القلب والسّفه والغرور ومتابعة الهوى والخبث والإصرار على الضلالة.. ونعتهم الناس بالطابور الخامس، وبالعملاء الأدنياء، وبالمفسدين والمراءين، وهم موجودون في هذا العصر، كما وجدوا في عهد الرسول وقبله، وسيوجدون في الأجيال الآتية، ولكنهم ملعونون أينما وجدوا، حتى وهم في قبورهم، وإن نجحوا فإلى حين، أما نجاح الصادقين المخلصين فإلى آخر يوم.

ومن طريف ما قرأته عن المنافقين قول محي الدين المعروف بابن عربي في الجزء الرابع من الفتوحات المكية: «ما أحسن ما قال تعالى: «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ» فإنهم مجبولون على النسيان، ولا يستخفون من اللَّه الذي لا يضل ولا ينسى، وكان الأولى لو صح عكس القضية».

 

ومعنى هذه العبارة أن المنافق لو تدبر أمره، وكان على شيء من الفكر والعقل لوجب أن يخفي جرائمه ونقائصه عن اللَّه - لو أمكن - لا عن الناس، لأن الناس لا يملكون له نفعًا ولا ضرًّا، والذي في يده النفع والضر هو وحده..

هذا، إلى أن الناس ينسون ما يرونه من السيئات والموبقات، فيتكلمون على صاحبها، وينالون منه بعض الوقت، ثم ينسون ويسكتون، كأن لم يكن شيء..

وقد شاهدنا الكثير ممن ارتكب العظائم، وافتضح بها لدى الملأ، حتى توارى من سوء فعلته.. ثم ظهر للناس، وجالسوه، وتعاملوا معه، كأي بريء ونزيه.. وربما منحوه ثقتهم، واختاروه للمناصب العامة، بل قد يتولى منصبًا دينيًّا مقدسًا لا يتولاه إلا نبي أو وصي نبي. وبالإضافة إلى أن الناس ينسون فإنهم يمدحون ويذمون تبعًا للغرض والهوى، فيجدر بالعاقل أن يخاف اللَّه، ولا يخاف الناس، وأن يكون رقيبًا على نفسه، فيجنبها ما يستحي منه، ولا يحب أن يعرف به، ويؤاخذ عليه. ولا أحد أجبن ممن يعمل في السر ما يستحي منه في العلانية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). لقد تسالم الفقهاء على قاعدة، أسموها حمل فعل المسلم على الصحة، ومثالها: أن ترى شخصًا يشرب مائعًا، ولا تدري: هل هو حلال أو حرام، أو علمت بأنه حرام، وشككت: هل يشربه للتداوي، أو جاهلاً بالتحريم، أو يشربه من غير عذر؟.. فعليك أن تحمله على الصحة، حتى يثبت العكس.

(2). إذا رأيت إنسانًا يأكل الخنزير - مثلاً - وهو يعلم بأنه لحم خنزير، ولكن لا يعلم بحكمه وتحريمه فعليك أن ترشده إلى حكم اللَّه، وتبين له أنه محرم، أما إذا كان يعلم بالحكم، ولكنه يعتقد أن هذا اللحم هو لحم غنم فلا يجب عليك البيان، لأنه معذور، والأول يسمى جاهلاً بالحكم، والثاني جاهلاً بالموضوع.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد