قرآنيات

ختم الله على قلوبهم

السيد رياض الحكيم

 

(خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ) (1).

 

إذا كان الله قد ختم على قلوبهم فكيف يذمّهم ويعذّبهم على كفرهم؟

 

إنّ الختم لم يكن ابتدائياً، وانّما جاء بعد جحودهم وكفرهم رغم قيام الحجة عليهم، كما قال تعالى: (وَقولـهمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (2). حيث احتجوا بأن عدم إيمانهم بسبب رفض قلوبهم وعقولـهم وعدم استجابتها للإيمان. فردّ عليهم بأن لعنة الله تعالى وسلب توفيقهم بسبب كفرهم ـ باختيارهم ـ للخضوع للحق والإيمان به.

 

إذا كانوا قد كفروا فما هو أثر الختم على قلوبهم؟ وإذا افترضنا أن أثره استمرار كفرهم فيكون ذلك مفروضاً عليهم، فيطرح هذا السؤال، أنّ الله كيف يمنع عباده من الإيمان؟ وكيف يعذبهم على ذلك؟

 

 يمكن الإجابة على ذلك بجوابين:

 

أ ـ إنّ الختم عقوبة الجحود والكفر، فيكون الإيمان فرصة ـ شأن كل الفرص ـ تفوت الإنسان عندما لا يستثمرها في حينها، وبذلك يتضح الجواب عن الشق الثاني من السؤال، لأن الكافر هو الذي حرم نفسه من فرصة الهداية بكفره فيستحق العقوبة عليه، كما لو اقترف جريمة القتل فحكم القاضي بقتله قصاصاً، فانّه يحاسب يوم القيامة على كفره، مع أنّه كان يمكن ـ نظرياً ـ أن يؤمن ويهتدي لو لم ينفّذ فيه حكم القصاص.

 

ب ـ إنّ المقصود من الختم على القلوب عدم وعيها للحقيقة، وهو النتيجة الطبيعية لعدم الاستجابة لنداء الحق، فمن يجحد ويعاند تنمو في أعماقه حالة الإضرار والمكابرة على طوال الخط، وتكون نسبة ذلك لله تعالى باعتباره القاضي والمحيط بكل شيء على غرار قولـه تعالى (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (3) مع أن الرمي صدر من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم).

 

ومما يشهد بأن هذا الحرمان هو النتيجة الطبيعية لموقف الكافر وعمله قولـه تعالى: (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ). وفي حديث زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال) ما من عبد إلاّ وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عزّ وجلّ: (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (4).

 

ومما يؤيد الجواب الثاني أن الغشاوة على البصر لم تُسند لله تعالى. فالختم على القلوب والأسماع نتيجة الغشاوة وإعراضهم عن الحق. والله العالّم.

 

يفهم من هذه الآية وغيرها من الآيات أنّ القلب هو مصدر الوعي في الإنسان مع أنّ العلم الحديث أثبت أنه مجرّد مضخّة لتحريك الدم وتوزيعه في الجسم؟

 

يتضّح عند مراجعة المصادر اللغوية أنّ لفظ القلب يراد به مصدر الوعي، قال ابن منظور: (القلب تحويل الشيء عن وجهه... وقلّبه: حوّله ظهراً لبطن.. وقلّب الأمورَ: بَحَثها، ونظر في عواقبها..) (5)، إلاّ أنّ القدماء طبّقوه على هذا العضو الخاص في الجسم ـ المضخة ـ فغلبت عليه التسمية، ولا دليل على أنّ (القلب) في الاستعمال القرآني يراد منه هذا التطبيق، بل معناه اللغوي وهو مصدر الوعي.

 

على أنّ المصادر اللغوية ذكرت أنّ من معاني القلب العقل. قال ابن منظور: ( وقد يعبّر بالقلب عن العقل، قال الفراء في قولـه تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) أي عقل. قال الفراء: (وجائز في العربية أن تقول: مالك قلب، وما قلبك معك: تقول: ما عقلك معك، وأين ذهب قلبك؟ أي أين ذهب عقلك؟ وقال غيره: لمن كان له قلبٌ أي تفهُّمٌ وتدبُّرٌ) (6).

 

وفي الموارد القليلة التي يظهر من بعض الآيات والروايات تطبيق قوّة الوعي على العضو الخاص فإنما هو من باب الجري على العرف العام، كما نلاحظ ذلك في كلمات الكتّاب والشعراء المعاصرين مع وضوح عدم ارتباط العضو الخاص ـ علمياً ـ بالوعي الإدراك في العصر الحديث.

 

بما أن الحواس مجرد آلات لنقل المعلومات فيكفي في انعدام الوعي الختم على القلب، فلماذا ذكَر السمع وغشاوة البصر؟

 

الختم على القلب إشارة إلى أنّهم لا يستثمرون عقولـهم للتفكر والوصول إلى الحقيقة، والختم على السمع إشارة إلى أنّهم لا يستوعبون كلام الرسول ونحوه من المسموعات، وغشاوة البصر إشارة إلى عدم وعيهم للآيات والشواهد التي يرونها بأبصارهم، فكلّ منها إشارة إلى صنف خاص من المعلومات وجوانب من الحقيقة أعرضوا عنها.

 

لماذا جاءت: (قُلُوبِهمْ) و(أَبْصَارِهِمْ) بصيغة الجمع، و(سَمْعِهِمْ) بصغية المفرد؟

 

باعتبار أن المقصود بالأوّلَين آلة التفكير والبصر، بينما المقصود من السمع قوة السمع لا آلته، لأن استخدام السمع بمعنى آلة السمع (الأذن) غير شائع، نعم في الموارد التي أُريد فيها آلة السمع أي الأذن، جاءت بصيغة الجمع كما في قولـه تعالى: (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) (7).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). البقرة 7

(2) النساء:155.

(3) الأنفال: 17.

(4) أصول الكافي 2 / 273 باب الذنوب.

(5) لسان العرب 1 / 685 مادة قلب.

(6) لسان العرب 1 / 687 مادة قلب.

(7) الأعراف: 195.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد