قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الدكتور محمد حسين علي الصغير
عن الكاتب :
عالم عراقيّ وشاعر وأديب، ولد في مدينة النجف الأشرف عام 1940 م، حوزويّ وأكاديميّ، حصل على الدكتوراه في الآداب بدرجة الامتياز عام 1979 م، وعلى درجة الأستاذية عام 1988 م، وعلى مرتبة الأستاذ المتمرس عام 1993 م، ومرتبة الأستاذ المتمرس الأول عام 2001 م. له العديد من المؤلفات منها: موسوعة الدراسات القرآنية، موسوعة أهل البيت الحضارية، ديوان أهل البيت عليهم السلام، التفسير المنهجي للقرآن العظيم. توفي الله في 9 يناير عام 2023 بعد صراع طويل مع المرض.

طبيعة الفهم الاستشراقي للقرآن (2)

ومن أروع ما حققه الأستاذ نولدكه في كتابه (تأريخ القرآن) وأشار إليه استقصاؤه لتأريخ نزول القرآن معتمدًا على ما جاء بكتاب: أبي القاسم عمر ابن محمد بن عبد الكافي في الموضوع (من علماء القرن الخامس الهجري)، وذكر أن كتاب أبي القاسم موجود في مكتبة 674 GodLygd Warn ثم تقسيمه ذلك إلى ما نزل من القرآن على النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم في مكة وإلى ما نزل عليه في المدينة.

 

ونولدكه وإن نقل أغلب ذلك عن كتاب أبي القاسم إلّا أنه حققه ونشره ودلنا بعد ذلك على نسخة الكتاب. وقد أحسن أبو عبد اللّه الزنجاني صنعًا بنشر ما اعتمده نولدكه، وما استخرجه هو بالاستعانة بكتابي «نظم الدرر وتناسق الآيات والسور» لإبراهيم بن عمر البقاعي، و«الفهرست» لابن النديم، وقد بوب ذلك في فهارس منسقة دقيقة استغرقت أكثر من عشر صفحات في كتابه «1».

 

وكان مما اجتهد فيه نولدكه ترتيبه للقسم المكي من القرآن وحصره بخمس وثمانين سورة وترتيبه للقسم المدني منه وحصره للمدني بثماني وعشرين سورة «2».

 

والغريب أن يكون ما توصل إليه نولدكه بعد البحث والتمحيص والمقارنة قد جاء على لسان ابن عباس بما حدث به ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس قال: نزلت بمكة خمس وثمانون سورة ونزلت بالمدينة ثمان وعشرون سورة «3».

 

ولم يذكر نولدكه الفاتحة لا في المكيّ ولا في المدنيّ، ولعله متوقف فيها باعتبارها في نظرة مكيّة، مدنيّة، فتمت بذلك سور القرآن أربع عشرة ومائة سورة.

 

وهو يضع السورة بموقعها التأريخي في النزول، فيبدأ بسورة العلق باعتبارها أول ما نزل من القرآن ثم سورة القلم وهي التي تليها في النزول وهكذا يتتبع السور تأريخيًّا حتى ينتهي بآخر ما نزل بالمدينة المنورة. ويبدو لي أن مباحث نولدكه في تأريخ السور هي أنفس ما جاء في كتابه تأريخ القرآن.

 

وقد كان المستشرق الإنكليزي (أدوارسل) في كتابه (التطور التأريخي للقرآن) موضوعيًّا في بحث المكيّ والمدنيّ وكتابة القرآن وتدوينه. واستفاد بما سبق إليه نولدكه. وقد وثق الأستاذ (كارل بروكلمان) المصحف العثماني، وذهب إلى رأي قيم في القراءات بأن الكتابة فتحت مجالًا لبعض الاختلاف في القراءات، فاشتغل القراء على هذا الأساس بتصحيح القراءات «4».

 

ولا شك أن ما كتبه المستشرق الفرنسي الأستاذ (بلاشير) في تأريخ القرآن، بنيته وتكوينه، ورسالته في مكة ورسالته في المدينة والواقعة القرآنية وعلوم القرآن يعتبر من أبرز الجهود الاستشراقية بعد جهود نولدكه، وقد أفاد منه كثيرًا لا سيما في تقيده بالمرحلة الزمنية لتأريخ نزول السور القرآنية.

 

وقد كانت الذائقة العلمية رصينة قيمة عند (بلاشير) لا سيما اعترافه بحيرة غير العربي عند فهم القرآن «5». إن هذا الفهم المتفاوت عند هؤلاء المستشرقين يعود إلى العنصر النفسي الأغلب في شخصية كل منهم. فمن اتجه اتجاهًا موضوعيًّا كان ما قدمه موضوعيًّا، ومن كان ذا هوى أو تعصب أو فرية أشبع ذلك في بحوثه.

 

وناحية أخرى مهمة في مفارقات الفهم الاستشراقي، تنبعث من زاوية عقيدية. فالمستشرق قد لا ينظر إلى النص القرآني من كونه نصًّا حضاريًّا، بينما ينظره المسلم نصًّا مقدسًا، ولا يمكن أن نتطلب من مستشرق أن يرى القرآن بعين المسلمين، فلا نحمله أكثر من مهمته الأكاديمية، فقد يتهاون بعض المستشرقين بأقدس جانب من القرآن ولا يراه تهاونًا، وقد يقصر في عرض وجهة نظر دقيقة ولا يجده تقصيرًا، وقد يطنب في نواح لا تستدعي اهتمامًا جديًّا في نظرنا، ومع ذلك رأينا البعض الآخر يعامل القرآن معاملة تفوق معاملته للتوراة والإنجيل وان كان يهوديًّا أو مسيحيًّا، معتبرًا القرآن من المقدسات الإلهية الكبرى، كما هي الحال عند المتورعين من المسلمين.

 

وفي هذا الضوء يجب أن يكون الباحث منصفًا في التقويم والجرح والتعديل، ولا يتطلب من الحركة الاستشراقية أكثر مما تدعيه هي لنفسها، أو أمرن مما تسمح به لها الطقوس الدينية المتداولة، وهذا لا يعني أن نغض طرفًا عن الأخطاء الطائلة إن وجدت، أو النزاعات المتطرفة إن كشفت، ولا نتستر على النيات المشبوهة الأحكا ، ولا نقف موقف المتسامح من القرار اللاموضوعي، ولكن علينا أن لا نتمحّل فنتصور المستشرقين أتقياء بررة، فنحملهم أكثر من طاقاتهم المتعارفة، ولا نتغطرس فنجعلهم مثالًا للأنانية، فهم بشر، والبشر فيه الصالح والطالح، وهم ملتزمون بعقائد معينة، قد يصاحب التزامهم هوى، وقد تفرض النفوس الموضوعية.

 

إن الفهم الاستشراقي للقرآن قد يختلف أحيانًا عن فهمنا له، لأسباب متأصلة، تمليها ظروف نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وقد تمليها نزعات عدائية حينًا، وتبشيرية حينًا آخر، وهنا يكمن الخطر المتفاقم إذ قد يشذّ المستشرق في هذه الأحوال عن الصواب، وهنا يعامل النص العلمي بمنظور اليقظة والحيطة والحذر إذ قد يتجنى على العلم والحق.

 

وقد يختلف أحيانًا عن فهمنا له، لهموم علمية وأكاديمية تعتبر أجدى نفعًا عندهم وأكثر تحصيلًا مما هي عندنا. وقد يختلف أحيانًا عن فهمنا له لأنهم لا ينظرون إلى القرآن نظرة تقديس نظرتهم إلى التوراة والإنجيل، فيكون التقصير مفروضًا من داخل النفس الاستشراقية.

 

وقد يختلف أحيانًا عن فهمنا له لأنهم يرون أن القرآن كتاب ثقافي حضاري يدرس من هذا الجانب، ولا يعالج منه ما له صلة بالوحي أو الغيب، وإذا عولج هذا الجانب فقد يعالج معالجة من لا إيمان له به، ولا ركون إليه، وهي قضية أخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الزنجاني، تأريخ القرآن: 49 - 61.

(2) نولدكه، تأريخ القرآن: 1 / 58 الطبعة الثانية.

(3) ابن النديم، الفهرست: 26.

(4) بروكلمان، تأريخ الأدب العربي: 1 / 140.

(5): فيما سبق: تأريخ القرآن: فقرة رقم 7.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد