قرآنيات

القرآن الكريم والصيام

السيد موسى الصدر

 

جاء في آيات الصيام أن القرآن الكريم أُنزل في شهر رمضان، ومن المعروف أن الوحي أُنزل على الرسول خلال ثلاث وعشرين سنة، فهل توقف إنزال الوحي طيلة أحد عشر شهرًا من كل سنة وتتالى في شهر رمضان فقط؟

 

في الحقيقة، إن هذا جواب عن هذا السؤال، ولكنه لا ينطبق على ما ورد في القرآن الكريم في مختلف المواضيع، لأننا نلاحظ أن القرآن الكريم في أكثر من موضع يؤكد أن القرآن الكريم أُنزل في ليلة واحدة كما نقرأ في هذه الآية: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ [القدر، 1]، وفي هذه الآية: ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ [الدخان، 3]. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يقال إن إنزال القرآن الكريم كان خلال شهر رمضان من كل سنة، وتوقف الوحي خلال الأشهر الأخرى.

 

والجواب الصحيح في رأيي والذي يُفهم من دراسة القرآن الكريم، أن القرآن له مرحلتان من النزول: مرحلة الإنزال، ومرحلة التنزيل. واللغة العربية تساعد على التفريق بين الإنزال الذي هو بمعنى النزول دفعة واحدة، وبين التنزيل الذي هو النزول تدريجيًا. عند ذلك بإمكاننا أن نقول إن القرآن الكريم نزل مرتين: مرة واحدة دفعة وفي شهر رمضان المبارك وفي ليلة القدر بالذات، ومرة أخرى نُزِّل تنزيلًا خلال أعوام الرسالة المتعددة.

 

والقرآن الكريم يشير إلى هذه النقطة بأن الرسول الأكرم (ص) كان عارفًا بالمجموعة القرآنية حيث أُنزل على قلبه في ليلة القدر، وعندما بلغ درجة النبوة فانفتح عليه ملكوت السماء، عرف القرآن بصورة إجمالية وبوجه مجمل. وإن كان يحتاج إلى تفاصيل في معرفته، وكان مكلفًا بألّا يقول ما يعرف إلّا عندما يؤمر من الله سبحانه وتعالى. مثلًا إن القرآن أُنزل في ليلة القدر، ومعنى ذلك أن القرآن كله أُنزل في ليلة القدر دون أن نأوّل فنقول إن أول القرآن أُنزل، أو آخر القرآن نزل، لا! كل القرآن أنزل في ليلة القدر.

 

ولكن خلال السنوات، سنوات الرسالة، كان يُكلف الرسول بإبلاغ ما يؤمر به، وهذا يظهر من هذه الآيات؛ مثلًا نقرأ في سورة القيامة هذه الآيات: ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبِع قرآنه * ثم إن علينا بيانه﴾ [القيامة، 16-19]، ونقرأ أيضًا في سورة طه آية أخرى شبيهة بهذه الآية: ﴿فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربِّ زدني علمًا﴾ [طه، 114]. فكان النبي بمقتضى مفهوم هاتين الآيتين يعرف القرآن ولو بصورة مجملة. ولكن لم يكن يُسمح له بأن يتلو الآيات القرآنية إلا عندما يؤمر بالقول.

 

بناءً على ذلك، فالقرآن أُنزل في ليلة القدر وفي شهر رمضان، وفي أول الرسالة دفعة واحدة، ثم نُزِّل تنزيلًا خلال ثلاث وعشرين عامًا أيام الرسالة.

 

وهل هناك ترابط بين الصيام والقرآن الكريم كما يُفهم من تسلسل آيات الصيام؟

 

إن هناك ترابطًا، لأننا إذا لاحظنا آيات الصيام في القرآن الكريم نجد في سورة البقرة، وفي آية 183، هذه الآيات: ﴿كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾ [البقرة، 183]، وفي الآية الثانية يذكر القرآن الكريم أن الصوم محدد: ﴿في أيام معدودات﴾ [البقرة، 203]. وفي الآية الثالثة يحدد الوقت. فكان من الممكن أن يقول القرآن الكريم شهر رمضان هو موسم الصيام، ولكن تأكيد القرآن بأن ﴿شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان﴾ [البقرة، 185]، هذا هو الموسم: ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أُخر﴾ [البقرة، 185].

 

فإذًا، هناك ترابط، وأعتقد أن الترابط الموجود بين الصيام وبين القرآن الكريم بوصفه حقائق السماء وحقائق الكون هو الترابط بين الصيام وبين المعرفة. فإذا لاحظنا أن الصيام بمقدار ما يربط على الشهوات وعلى الحاجات المادية، وبمقدار ما يقوي الإرادة الإنسانية بنفس المقدار يفتح العقل والتفكير، ويرفع مستوى الإنسان في روحه حتى يتمكن من إدراك هذه المعاني.

 

فالمطلوب، [خصوصًا] وأن القرآن الكريم الذي أُنزل في شهر رمضان، [والذي] جعله الله موسمًا للصيام حتى ينتبه الصائم بأن هذا الشهر، بإمكانه وبواسطة صومه وجهاده ورياضته، يرتفع بمستوى عقله ودرجة إدراك الحقائق، الحقائق الموجودة في القرآن الكريم، الحقائق الكونية. ولذلك، ورد في الروايات أن تلاوة القرآن في هذا الشهر من أفضل الأعمال وأمثال ذلك من الأحكام.

 

فلا شك أن هناك ترابط بين الصيام وبين قول القرآن الذي هو تعبير عن تقديم حقائق السماء، أو كل الحقائق إلى الإنسان في هذا الشهر. فالمطلوب أن هذا الشهر باب المعرفة فيه مفتوح، وبإمكان الإنسان أن ينفتح إلى المعرفة كلها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد