
ألقت سيدة النساء (عليها السلام) هذه الخطبة وهي على فراش المرض، ذلك المرض الذي لم تُشفَ منه أبداً، ومنه عرجت روحها الطاهرة.
كانت خطبتها الأُولى في مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وهي في حالة صحيّة جيدة، وبحضور جمع من رجال المهاجرين والأنصار، وكانت هذه الخطبة في مقابل نساء المهاجرين والأنصار في داخل بيتها، وعلى فراش المرض.
رغم أنّ المخاطَب قد اختلف، والزمان والمكان قد تغيّرا، والحال قد تردّى، إلاّ أنّ لحن الخطبتين ينمّ وبوضوح عن روحية عالية مملوءة بالعلم والمعرفة، مفعمةٍ بالإيمان وحب الله، يفيض من جنبَيها ألمٌ وحزن، وقد تميّزت كلا الخطبتين بلحن بليغ وساحق وأخّاذ وقاطع وشجاع، لكن لحن الخطبة الثانية، كان أشد تنكيلاً بالظالمين، وأكثر حرقةً وألماً وغماً.
لقد كانت هذه الخطبة التي صدرت من قلب بنت الرسول (صلّى الله عليه وآله) المتألم بمثابة رسالة الهموم والأحزان. الهم الذي نغّص روحها، ونخر عظامها، وأشعل نيران الحرقة في كيانها، ولذلك نرى أنّ خطبتها اتخذت طابعاً ملتهباً دموياً؛ لأنّها نبعت من قلب محترق، فاض بدم الأسى والحسرة.
من عجائب هذه الخطبة، هي أنّ هذه السيدة الجليلة (عليها السلام) قد لاقت الكثير من الظلم العنيف، في الفترة الواقعة ما بين وفاة أبيها (صلّى الله عليه وآله)، واستشهادها (عليها السلام)، ذلك الظلم الذي كان سبب مرضها العصيب، ورغم أنّ سؤال نساء المدينة عند عيادتها كان يدور حول حالتها الصحية، وعادةً يشكو المريض بعضاً من آلامه إن لم يكن حديثه كله مختصاً بحالته الصحية، رغم ذلك فإنّها لم تورد في حديثها أي كلمة عن حالها ومرضها، بل كان حديثها مُنصبّاً على مسألة غصب الخلافة وظلامة علي (عليه السلام)، والأخطار التي ستمر بالأمّة الإسلامية نتيجة هذا الانحراف.
عجباً لها، فلم تذكر في حديثها شيئاً عن مرضها، فكل ما قالته كان عن ألم زوجها علي (عليه السلام)، وعن مشاكل العالم الإسلامي. نعم... لقد كانت روح الزهراء (عليها السلام) أرفع من أن تتكلم عن نفسها وآلامها - رغم أنّها كانت كبيرةً - بل وأجلّ من أن يوصف علو شأنها، فتكلمت فقط عن إمامها وزوجها المحبوب علي (عليه السلام) وآلامه. لم تكن قَلِقةً على نفسها، بل كانت قلقةً على الأمّة الإسلامية ومصيرها المشؤوم والمؤلم.
يفكّر المرء عادةً في آخر لحظات حياته بنفسه ومشاكله وآلامه، لكنّ المدهش أنّ فاطمة (عليها السلام) لم تورد على لسانها في هذه الخطبة الطويلة شيئاً من ذلك، ولا حتى بجملة واحدة. وهذا أكبر دليل على عظمة فاطمة (عليها السلام)، ومقام تضحيتها وإيثارها. وفي هذا عِبرة لكل الأحرار الهادفين، ولكل المضحّين والفدائيين في تاريخ البشرية.
بلى فقد كانت دائماً - وإلى آخر لحظة من حياتها الشريفة المملوءة بالآلام والهموم - شمعةً تحترق؛ لتنير لمَن حولها، وتنجّي الضالين منهم، وتدافع عن الحق والعدالة.
تحدّثت في خطبة فدك (الخطبة الأُولى لسيدة النساء) عن كلٍّ من التوحيد، النشوء، المعاد، فلسفة الأحكام، والأحداث التي رافقت بعثة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وبركات وجوده، ومسألة غصب الخلافة، ومصير المسلمين، وإن هي تحدثت عن (فدك) فذلك؛ لدورها المؤثّر في كونها دعامةً ماليةً لمسألة الخلافة، وكذا سائر مسائل الإسلام السياسية؛ وهذا ما دعا الأعداء إلى تضييق الخناق على آل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله)، وتحطيم قدراتهم بانتزاع (فدك) من أيديهم، فأرادت استرجاعها منهم.
لكنَّ سيدة النساء (عليها السلام) ركّزت في خطبتها الثانية (خطبة نساء المهاجرين والأنصار) حديثها على محور الخلافة والإمامة فقط، وبالرغم من معاناتها للكثير من الظلم والجور، ورغم أنّ الفرصة كانت سانحةً للمطالبة بحقها المغصوب، إلاّ أنّها لم تطالب بأي شيء، بل ولم تنطق بأية شكوى، فكل ما قالته كان عن عليٍّ (عليه السلام)، وعن الخلافة وعن مصالح المسلمين.
يُعدُّ (التسليم المطلق) من المقامات العالية، التي يتحلّى بها أولياء الله، وهذا يعني أن يُسلك إلى الله طريق الحق والعدل، الذي ينسى المرء فيه نفسه، فلا يرى غير الله. لا يأتمر إلاّ بأمره. لا يرجو إلاّ رضاه. لا يفكر إلاّ بما يريده. فالمرحلة الأُولى هي الإسلام، ثمّ الإيمان، وبعد ذلك الرضا، ومن ثَمَّ يأتي دور التسليم المطلق..
لمّا اعتلت فاطمة (عليها السلام) علة الموت، اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار، يعدنها، فقلنَ لها: كيف أصبحتِ من علَّتك يا بنة رسول الله؟! فحمدتْ الله وصَلّت على أبيها (عليها السلام) ثمّ قالت:
أَصحبتُ واللهِ عائفةً لدنياكنَّ، قاليةً لرجالكنَّ، لَفظتُهم بعد أن عجمتهم، وشَنأتهم بعد أن سَبَرتهم. فقِبحاً لفلول الحدِّ، واللعب بعد الجدّ، وقرع الصفاة، وصدع القناة، وخَطَل الآراء، وزَلَل الأهواء، و ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) لا جرم لقد قلَّدتهم رِبقتها، وحملتهم أوقتها، وشننت عليهم عارها. فجدعاً وعقراً وبُعداً للقوم الظالمين.
وَيحهُم، أنّى زعزعوها عن رواسي الرسالةِ، وقواعد النبوةِ والدلالةِ، ومهبط الروح الأمين، والطبِّين بأمور الدنيا والدين. (أَلاَّ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) وما الذي نَقموا من أبي الحسن (عليه السلام)؟ نَقموا منه واللهِ، نكيرَ سيفهِ، وقلةَ مبالاته بحتفهِ، وشدةَ وطأتهِ، ونَكال وقعتهِ، وتنمُّرَه في ذات الله.
وتاللهِ، لو مالوا عن المحجّة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة، لَردَّهم إليها، وحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سَجَحاً، لا يُكْلم خشاشه، ولا يكلّ سائره، ولا يملّ راكبه. ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً، تطفح ضفَّتاه، ولا يَترنّق جانباه، ولأصدرهم بِطاناً، ونصح لهم سراً وإعلاناً.
ولم يكن يتحلّى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غيرَ ري الناهل وشِبعة الكافل، وَلَبان لهم الزاهد من الراغب، والصادق من الكاذب. (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنَ السَّماءِ وَالأرضِ وَلكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ).
أَلا هلمَّ فاستمع، وما عشتَ أراك الدهرُ عجباً، وإن تعجب فعجبٌ قولُهم: ليتَ شعري؟ إلى أي سنادٍ استندوا؟ وعلى أي عمادٍ اعتمدوا؟ وبأيّة عروةٍ تمسّكوا؟ وعلى أية ذريّة أقدموا واحتنكوا؟! (لَبِئْسَ المَوْلى ولَبِئْسَ العشير). (وبِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً). استبدلوا والله الذُّنابى بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ).
وَيحهم، (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). أَما لَعمري، لقد لُقّحت، فنظرةٌ ريثما تُنتج، ثمّ احتلبوا مِلاء القعب دماً عبيطاً، وذُعافاً مبيداً (هنالك يخسر المُبطلون) ويعرف التّالون غِبَّ ما أسَّس الأوّلون، ثمّ طيبوا عن دنياكم أَنفساً، واطمأنوا للفتنة جأشاً.
وأبشروا بسيفٍ صارمٍ، وسطوةِ معتدٍ غاشمٍ، وهَرجٍ شاملٍ، واستبدادٍ من الظالمين يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرةً لكم، وأنّى بكم وقد (عُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ).
قال سُويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها (عليها السلام) على رجالهنَّ، فجاء إليها قومٌ من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين وقالوا: يا سيدة النساء، لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبلِ أن نُبرم العهد، ونُحكم العقد، لَما عدلنا عنه إلى غيره. فقالت: (إليكم عني فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم).
حاجتنا إلى الأعمال النوعية.. لماذا يجب تأمين المنظومة أولًا؟
السيد عباس نور الدين
ميتافيزيقا العلم الذكيّ (4)
محمود حيدر
الخطبة المؤلمة للزّهراء (ع) في نساء المدينة
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
دعوة إلى التوازن بين الدّنيا والآخرة
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
معنى (نكف) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
الدوبامين يجعل الناس أطول صبرًا وأقل اندفاعيةً وأقوى على مقاومة الإغراءات الآنية
عدنان الحاجي
العقل العلمي والأخلاقي في القرآن الكريم
الشيخ شفيق جرادي
تحديد دلالة آية بيعة الرضوان تحت الشجرة (2)
الشيخ محمد صنقور
ادرس خطتك قبل الانطلاق
عبدالعزيز آل زايد
العلم المقصود للعمل
الفيض الكاشاني
السيدة الزهراء: وداع في عتمة الظلمات
حسين حسن آل جامع
واشٍ في صورة حفيد
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
السّنن الاجتماعية في القرآن الكريم
عظَمةُ الزهراء عليها السلام محمّدية
حاجتنا إلى الأعمال النوعية.. لماذا يجب تأمين المنظومة أولًا؟
ميتافيزيقا العلم الذكيّ (4)
الخطبة المؤلمة للزّهراء (ع) في نساء المدينة
السيدة الزهراء: وداع في عتمة الظلمات
(الأصول القرآنية للنظام الاجتماعي) جديد الشّيخ فيصل العوامي
الخطبة التاريخية لسيدة الإسلام فاطمة الزهراء (عليها السلام)
نور فاطمة عليها السّلام
فدك وأئمة الهدى (عليهم السلام)