من التاريخ

الخنساء


الشيخ جوادي آملي ..

الخنساء من نساء العرب ويقال إنها من أحفاد امرىء القيس الشاعر المشهور. كانت تنشد شعراً رفيعاً في رثاء أخويها (معاوية وصخر) اللذين قتلا في إحدى الحروب، ولكنها بعد مقتل صخر اشتد حزنها لأن صخراً كان أرأف وأرق قلباً وكان يعينها في المصاعب المالية، لأن زوجها كان يلعب القمار ويخسر حصيلة عمله، وكان صخر قد حفظ كرامة أخته هذه عدة مرات. كان شعرها في رثاء أخويها أفضل شعر من بين شعر النساء.


رأي الأدباء في الخنساء
عندما كان الأدباء العرب المعروفون يسألون عن موقع الخنساء في الأدب كانوا يقولون كلاماً رفيعاً . قيل لجرير: (من أشعر الناس) قال: أنا لولا هذه.
كان بشار يقول: هذه المرأة نظمت شعراً بدون نقص أدبي، وقيل لبشار ما هو رأيك بالخنساء؟ قال: (تلك فوق الرجال) أي هي فوق الشعراء الرجال.
أما الأصمعي فكان يرجح ليلى الأخيلية على الخنساء ولكنه كان يذكر الخنساء بتكريم. وكان المبرد يقول: (كانت الخنساء وليلى فائقتين في أشعارهما).
كان النابغة الذبياني يتولى منصب الحكم في سوق عكاظ، وكان الشعراء الذين ينظمون شعراً جديداً يعرضونه عليه في سوق عكاظ حتى يقيمه، عندما سمع القصيدة (الرائية) للخنساء في رثاء صخر قال: ( إذهبي فأنت أشعر من كانت ذات ثديين، ولولا هذا الأعمى الذي أنشدني قبلك يعني الأعشى لفضلتك على شعراء هذا الموسم). وعندما سمع حسان بن ثابت الذي كان من المشاركين في المسابقة هذا الكلام من الحكم غضب وقال: (ليس الأمر كما ظننت)، فالتفت إلى الخنساء وقال لها بأن تجيب حسان بن ثابت ، فالتفتت إلى حسان بن ثابت وقالت: (ما أجود بيت في قصيدتك هذه التي عرضتها آنفاً)؟ قال: لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضحى...*... وأسيافنا يقطرن من نجدة دماً فأشكلت الخنساء ثمانية إشكالات أدبية على هذا البيت الأول: أنك قلت: (الجفنات) والجفنات دون الجفان وأقل منها، وكان الحق لو قلت الجفان. الثاني: أنك قلت: (الغرّ) وهو جمع أغر وهو بياض الجبين، ولو قلت (البيض) لكان مطلق البياض ولكان معناه أوسع. الإشكال الثالث: قلت (يلمعن) ولو استعملت (يشرقن) محل يلمعن لكان أفضل لأن الإشراق أقوى من اللمعان. الرابع: قلت بالضحى ولو قلت بالدّجى لكان أكثر إطراقاً. الخامس: قلت: أسياف والأسياف ما دون العشرة ولو قلت سيوفنا لكان أكثر وأفضل. السادس: قلت: يقطرن ولو قلت يسلن لكان أكثر.
السابع: قلت: دما والدماء أكثر من الدم. بعد هذه الإشكالات. سكت حسان ولم يجب، كانت هذه قوة أدبية لدى هذه المرأة الأدبية التي كانت من أحفاد امرىء القيس.
عندما ظهر الإسلام، ولم يؤمن به كثير من الرجال والنساء. من أثر طبع الجاهلية، أسلمت هذه المرأة بسبب النبوغ الفكري الذي كان لديها، فقدمت الخنساء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلمت واستنشدها فأنشدته فأعجب بشعرها.
لقد قامت بتربية أبناء في المجتمع الإسلامي، وكانت تجهزهم وتشجعهم وترسلهم إلى الجبهة، وفي إحدى الحروب في صدر الإسلام التي وقعت بعد رحلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصتهم بهذه الوصية: "يا بني إنّكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو انكم لبنو رجل واحد كما انكم بنو امرأة واحدة ما هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم. واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية"﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾.
ورغم أن هناك رواية وردت عن الإمام الباقر عليه السلام في آخر هذه الآية أنه قال بأن المقصود من هذه الآية هو اصبروا وليكن عندكم رابطة مع إمامكم أو ولي عصركم ولكن مقصودها هو بيان مصداق وهو حق في هذه الآية الصبر هو غير المصابرة والمرابطة، الإنسان يصبر في الحوادث الفريدة أما في الحوادث الجماعية كالحرب وأمثالها فلها مصابرة ولها مرابطة في الارتباط مع القيادة. مضمون هذه الآية أوصته الخنساء لأبنائها وأرسلتهم إلى الجبهة وقالت: "فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت ناراً على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رسيسها".
إن جملة (الآن حمي الوطيس)  من الكلمات التي يقال إنها لم تكن لها سابقة بين الأدباء، أي بما أن التنور حار الآن، فالوقت هو وقت الخبز.
عندما تكون تجارة الشهادة نشطة يجب السعي وملأ الجبهات. وهذه المرأة قالت لأبنائها بأنهم إذا رأوا تجارة الشهادة نشطت وحمي ميدان الحرب فليغتنموا الفرصة وليتواجدوا (فتيمموا وطيسها) تدعو أبنائها للتواجد في الجبهة حتى يغتنموا الشهادة إما ينتصروا والنصر غنيمة أو يستشهدوا والشهادة غنيمة، هناك من يفكر بغنيمة مادية ولكن هذا المرأة تدعو أبناءها إلى الشهادة والكرامة (تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة)، لأنه: (الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة).
(فلما أضاء لهم الصبح ، باكروا إلى مراكزهم، فتقدموا واحدًا بعد واحد ينشدون أراجيز يذكرون فيها وصية أمهم لهم حتى قتلوا عن آخرهم) وأخبرت هذه الأم بأن أولادها قتلوا (فقالت: الحمد الله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة).
هذا الذوق الأدبي يستطيع أن ينشد شعراً يعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الذوق يستطيع أن يؤلف خطابة من آيات القرآن ويحث أبناءه على الجبهة وهذا الذوق الأدبي يقول بعد تلقي خبر استشهاد أبنائه (الحمد لله الذي شرفني بقتلهم).
كيف يمكن أن يقول الإنسان أو يصدق أن المرأة جبانة كم لدينا هكذا من الرجال في صدر الإسلام؟ إذا كان هناك أشخاص مثل أبي ذر ذكرت شهامتهم مرات، فإن هناك مثل هذه النساء لو ذكرت قضاياهن لعرف الجميع مقام المرأة وعند ذلك لا يعدونها ضعيفة وجبانة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد