من التاريخ

شهادة الإمام الرضا عليه السلام


ربّما تحيّر البعض عندما تورد مصادر تاريخيّة أنّ المأمون العباسيّ كان يُكرم الإمام الرضا، عليه السلام، ويمدحه ويناقش في عقائد أهل البيت عليهم السّلام، وفي الوقت نفسه تذكر مصادر أُخَر أنّه المتّهم الأوّل، بل الوحيد في قتل الإمام عليه السّلام.
فقد ذكر بعض المصادر أنّ المأمون بعد شهادة الرضا، عليه السلام، توجّع وأظهر الحزن، وهجَر الطعام والشراب أيّاماً، فربّما يكون غيره هو القاتل، أو ربّما كان المأمون قد حُرّض على القتل فأقدم بغير إرادة أو اختيار.
وهذه الحيرة تدعونا لنكتشف شيئاً من شخصيّة المأمون، ولنتساءل: هل كان فيها ذلك الاستعداد على الإقدام على القتل بشكلٍ عام، وعلى قتل الإمام عليٍّ الرّضا، عليه السلام، بشكل خاصّ؟

سوابق .. ووثائق
مَن لا يعرف أنّ المأمون قتل أخاه الأمين؟ فهو الذي أصدر الأمر لأشهر قوّاده طاهر بن الحسين المعروف بـ «ذي اليمنين» بأن يقتله. ولم يكتفِ بذلك، بل أعطى الذي جاءه برأس الأمين ألف ألف درهم بعد أن سجد شكراً لله. ولم يَشفِه ذلك، بل أمر بنصب رأس أخيه على خشبة في صحن الدار. ولم يُهدّئه ذلك، إنّما أمر كلّ من قبض راتبه أن يلعنَ الأمين.
ولم يُنزل رأس أخيه حتّى جاء رجل فلعن الرأس ووالديه وما وَلدا، وأدخلهم في كذا وكذا، بحيث يسمعه المأمون، فتبسّم وتغافل وأمر بحطّ الرأس.
ثمّ بعد ذلك دبّر قتل وزيره الفضل بن سهل - وكان أراد أن يزوّجه ابنته - في حادثة غامضة. طعنه وتخلّص منه لأنّه أصبح عاراً عليه بعد قتله أخاه الأمين. ومِن بعده دبّر قتل قائده الكبير هرثمة بن أعين فور وصوله إلى مرو، ودبّر فيما بعد قتل طاهرٍ بعدما ولاه خراسان بمدّة قصيرة.
وكان فيما مضى يظهر لهم الحبَّ، ويميل إلى التقرّب منهم ومصاهرتهم، وفي كلِّ مرّة، بعد قتلهم، يتظاهر بالحزن العظيم عليهم، وطلب الثأر لهم، وتقديم التعازي لذويهم، ويعمل على تعيين ولد القتيل مكان أبيه، بل وتقديم بعض الرؤوس لأهليهم بعنوان أنّهم القتلة.
هذه بعض طُرقه، وهنالك طُرق أخرى عرفها الآخرون، وربّما لم يشتهر كثيراً أنّ المأمون قتل سبعةً من أبناء الإمام الكاظم، عليه السلام، إخوة الرضا عليه السّلام، منهم: إبراهيم بن موسى، عليه السّلام، وزيد بن موسى، عليه السلام، بعد أن عفا عنهما ظاهراً، وأحمد بن موسى، عليه السّلام، ومحمّد العابد، وحمزة بن موسى عليه السّلام.. إضافة إلى عشراتٍ من الأعيان ومئات من العلويّين وآلافٍ من مخالفيه.
وفي كلّ هذا لم تَغِب عنه الحيلة والمكر والدهاء، إلى درجةٍ من النفاق الغريب الذي تعدّدت صوره وأساليبه ووقائعه:
فمثلاً كان يتظاهر بالتودّد إلى الإمام الرضا، عليه السلام، وفي الوقت ذاته يقدّم سيوفاً مسلولة إلى صبيح الديلميّ - أحد ثقاته - وإلى ثلاثين غلاماً يأخذ عليهم العهد والميثاق، ويحلّفهم ويقول لهم: يأخذ كلُّ واحد منكم سيفاً بيده، وامضوا حتّى تدخلوا على ابن موسى الرضا في حجرته، واخلطوا لحمه ودمه، وصِيروا إليّ.
وتُنفّذ الخطّة لكنّها تخيب بالمعجزة، في قصّةٍ رهيبة، يقول الإمام الرضا، عليه السلام، في آخرها لهرثمة بن أعينَ: «يا هَرْثَمَةُ! وَاللهِ لا يَضُرُّنا كَيْدُهُمْ شَيْئاً حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ مَحِلَّهُ».
وفي الوقت الذي يُشيد المأمون بمعارف الإمام الرضا، عليه السلام، وعلومه، يُجنّد له علماء اليهود والنصارى ورؤساء المذاهب والفِرق ممّن يبتعد عن الإسلام قليلاً أو كثيراً ليحاججوه لعلّهم يغلبونه.. فيخيبون ويخيب المأمون معهم، فما يكون منه إلّا إظهار العجَب والإعجاب، واستبطان الغيلة والغدر.
فلمّا عجز عن قتله في شخصيّته، وخاب في قتله اجتماعيّاً، بل كلّما أراد به كيداً أظهر الله للإمام مزيد الرفعة.. وجد المأمون أن لا محيص عن قتل البدن. وقد سُئل أبو الصلت الهروي: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه إيّاه ومحبّته له؟! فأجاب، وكان في آخر جوابه. فلمّا أعيتْه الحيلة في أمره اغتاله، فقتله بالسمّ.
وهكذا نُقل أمر شهادة الإمام الرضا، عليه السلام، على يد المأمون في المسلّمات، حتّى ذكره عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام في رسالته إلى المأمون الذي منّاه بالأمان فلم يطمئنّ، فكتب إليه:
«عجبتُ مِن بَذْلك العهدَ وولايته لي بعدك، كأنّك تظنّ أنّه لم يبلغني ما فعلتَه بالرضا!!.. ففي أيّ شيءٍ ظننتَ أنّي أرغبُ من ذلك؟ أفي المُلك الذي قد غرّتكَ نُضرته وحلاوتُه؟ فواللهِ لئن أُقذف - وأنا حيّ - في نار تتأجّج أحبُّ إليّ من أن أليَ أمراً بين المسلمين، أو أشرب شربةً من غير حِلّها، مع عطشٍ شديدٍ قاتل، أم في العنب المسموم الذي قتلتَ به الرضا؟!.. فبأيّ شيء تغرّني؟! ما فعلتَه بأبي الحسن صلوات الله عليه؟ بالعنب الذي أطعمتَه إيّاه فقتلتَه؟..‌«.

وتلك ميميّة أبي فراس الحمدانيّ (ت:357 للهجرة) وفيها يقول:
لَيْس الرَّشيدُ كَموسى في القِياسِ ولا  مَأْمونُكُمْ كَالرِّضا إِنْ أَنْصَفَ الحَكَمُ
باؤوا بِقَتْلِ الرِّضا مِنْ بَعْدِ بَيْعَتِهِ  وَأَبْصَروا بَعْضَ يَوْمٍ رُشْدَهُمْ وَعَمُوا
 
وقد ورد خبر شهادة الإمام الرضا، عليه السلام، على يد المأمون في قصائد شعراء آخرين، منهم: الأمير محمّد بن عبدالله السوسيّ، والقاضي التنوخيّ، وكلاهما من أعلام القرن الرابع الهجري.

محاولات.. قبل الجريمة
تظافرت الأدلّة على أنّ المأمون حاول جاهداً أن يقتل الإمامَ الرضا، عليه السلام، اجتماعيّاً ودينيّاً، معبِّراً عن ذلك بقوله: «قد كان هذا الرجلُ مُستتراً عنّا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله وليَّ عهدنا؛ ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالمُلك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنّه ليس ممّا ادّعى في قليلٍ ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لنا دونه. وقد خشينا - إنْ تركناه على تلك الحال - أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه، ويأتيَ علينا ما لا نُطيقه».
ولمّا فشل المأمون في أُمنيته المريضة هذه، أخذ يحاول قتلَ الإمام الرضا، عليه السلام، علميّاً، فعبّر عن ذلك بقوله:
«..نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً قليلاً، حتّى نصوّره عند الرعيّة بصورةِ مَن لا يستحقّ هذا الأمر، ثمّ نُدبّر الأمر فيه بما يحسم عنّا موادّ بلائه».
وقد طلب منه حميد بن مهران يوماً أن يسمح له بمجادلة الإمام الرضا، عليه السلام، لعلّه يفحمه، ويُبيّن للناس قصورَه وعجزه، فقال المأمون مُعبّراً عن دخيلته: «لا شيءَ أحبّ إليّ من هذا».
وقال أيضاً لسليمان المرزويّ بعد أن بعث في طلبه: «إنّما وجّهتُ إليك لمعرفتي بقوّتك، وليس مُرادي إلاّ أن تقطعه عن حُجّةٍ واحدة فقط».
وإذا بسليمان هذا ينهار أمام عالِمِ آل محمّد، صلّى الله عليه وآله، ويتحوّل خلال لحظات إلى تلميذ يطلب مزيداً من الإمام الرضا عليه السّلام، فأخذ يسأل لا يحاجج، ويكرّر: «زدْني، جُعلت فداك».
وهكذا خابت محاولات المأمون، إذ كانت نتائجها دامغة على رأسه، مُخْزِيةً لحاله وحال مَن عبّأهم لمهمّاته الفاشلة. ولمّا سقط ما في يده، ظلّ يتملّق للإمام الرضا، عليه السلام، حتّى ضاق به، فأخذ يفكّر بالغدر على نحوٍ جدّيّ هذه المرّة، وقد أخبر الإمام، عليه السلام، صاحبَه هرثمةَ بن أعين بما سيجري له على يد المأمون.

ماذا تقول الأخبار؟!
تظافرت النصوص حول الظروف المحيطة بشهادة الإمام الرضا، عليه السلام، إلى درجة التسالم والاتّفاق، وهي على أربعة أقسام:
القسم الأوّل: الأخبار المُنبئة بشهادته، عليه السلام، قبل وقوعها.
الثاني: الأخبار القائلة بوقوعها في حينها.
الثالث: الأخبار التي تناقلها الناس والرواة: شهوداً كانوا أو نقلةً أُمناء.
الرابع: الأخبار التي فصّلت قصّة قتل المأمون للإمام الرضا عليه السّلام.
وتُجمع الأخبار الواردة في هذه الأقسام الأربعة أنّ قتل الإمام الرضا، عليه السلام، كان بتخطيط وتدبير وإشراف مباشر من المأمون نفسه، وهو الذي بالغ في الإلحاح على الإمام، عليه السلام، ليتناول العنب أو الرمّان الذي دِيف بالسمّ.
وفي (عيون أخبار الرضا عليه السلام)، عن إسحاق بن حمّاد أنّ الرضا، عليه السلام، كان يقول لأصحابه الذين يثق بهم: «لا تَغْتَرُّوا مِنْهُ بِقَوْلِهِ [أي المأمون الذي كان يتظاهر له بالإجلال ويتملّق له]، فَما يَقْتُلُني، وَاللهِ، غَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُ لا بُدَّ لي مِنَ الصَّبْرِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتابُ أَجَلَهُ».
وفي خبرٍ آخر، أنّ المأمون ذات مرّة راح يطرح على الإمام مجموعة من الأسئلة، وبعد جوابه، عليه السلام، على أسئلة المأمون الطويلة والغريبة والغامضة، قال المأمون: لقد شفيتَ صدري يا ابن رسول الله، وأوضحتَ لي ما كان مُلتبساً، فجزاك الله عن أنبيائه وعن الإسلام خيراً.
قال عليّ بن الجهم – وكان حاضر المجلس: فقام المأمون إلى الصلاة وأخذ بيد محمّد بن جعفر بن محمّد عليهما السلام - وكان حاضر المجلس أيضاً - وتبعتُهما، فقال له المأمون: كيف رأيتَ ابن أخيك؟ فقال: عالم، ولم نرَه يختلف إلى أحدٍ من أهل العلم. فقال المأمون: إنّ ابن أخيك من أهل بيت النبوّة الذين قال فيهم النبيّ صلّى الله عليه وآله: أَلاَ إِنَّ أَبْرارَ عِتْرَتي، وَأَطايِبَ أُرومَتي، أَحْلَمُ النّاسِ صِغاراً، وَأَعْلَمُ النّاسِ كِباراً، فَلا تُعَلِّموهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ، لا يُخْرِجونَكُمْ مِنْ بابِ هُدًى، وَلا يُدْخِلونَكُمْ في بابِ ضَلالَةٍ.
قال عليّ بن الجهم: وانصرف الرضا، عليه السلام، إلى منزله، فلمّا كان من الغد غدوتُ إليه وأعلمتُه ما كان من قول المأمون وجوابِ عمِّه محمّد بن جعفر له، فضحك الرضا عليه السّلام، وقال: «يا ابْنَ الجَهْمِ! لا يَغُرَّنَّكَ ما سَمِعْتَهُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ سَيَغْتالني، وَاللهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ».
وهكذا يُفهم أنّ المأمون كان ماكراً في سياسته، حتّى نفذّ جريمته العظمى بعد أن ضاق بالإمام الرضا، عليه السلام، فلم تجد نفسه الخبيثة إلاّ القتل.. ولكنّه حين قتله أصابته الحيرة وأخذ يهذي، وبين هذيانه الكثير من الإقرار:

* فمرّةً يقول: ما أدري أيّ المصيبتين علَيّ أعظم: فقدي إيّاك، أو تهمة الناس لي أنّي اغتلتُك وقتلتُك؟!
* ومرّة يرمي بنفسه على الأرض ويخور قائلاً: ويلك يا مأمون! ما حالك، وعلى ما أقدمت؟! لعن الله فلاناً وفلاناً فإنّهما أشارا علَيّ بما فعلت.
* ومرّة أخرى يقول قلِقاً: ويلٌ للمأمون من الله، ويلٌ له من رسول الله، ويلٌ له من عليّ! وهكذا إلى الرضا عليه السّلام.. هذا واللهِ الخسران المبين. يقول هذا ويكرّره.
وقد تأخّر عن إعلان وفاة الإمام عليه السّلام، وكأنّه تحيّر كيف يُرتّب الأمر وهو يعلم أنّ الناس يوجّهون أصابع الشكّ إليه.
وأخيراً.. نقرأ هذه العبارات من زيارة الإمام الجواد لأبيه الرضا عليهما السلام:
«..السَّلام عليكَ أيُّها الصِّدّيقُ الشَّهيد، السَّلام عليكَ أيُّها الوَصيُّ، البّرُّ التَّقيُّ ".." السلام عليك من إمامٍ عصيبٍ، وإمامٍ نجيبٍ، وبعيدٍ قريبٍ، ومسمومٍ غريبٍ ".." السَّلامُ على مَنْ أمَرَ أوْلادَهُ وعِيالَهُ بالنّياحَةِ عليه قَبْلَ وُصولِ القَتْلِ إلَيه».
ــــــــــــــــ
مجلة شعائر

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد