السيد هاشم معروف الحسني
في العام العاشر من مبعثه الّذي سماه هو نفسه عام الحزن، وفي شهر رمضان من ذلك العام كما يرجّح جماعة من المؤرخين، اشتكى أبو طالب بعد أن تخطى الثمانين، وأخذ المرض يفتك به، وشعر بدنو أجله. ولكن المرض على وطأته، لم يشغله عن محمد رسول الله، وبات يفكر فيه، لا بأوجاعه ولا بقواه المنهارة، وأيقن أن قريشاً سوف تستبيح من محمد بعد وفاته، ما لم تكن تستطيعه في حياته. فلم تشغله أوجاعه وآلامه عن ترغيب قريش في الإسلام ودعوتهم إليه، وقد اجتمعوا حوله لعيادته، فقال لهم: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد واتبعتم أمره، فأطيعوه تنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم. ولكنهم كعادتهم، لم يسمعوا قوله، ولم يقبلوا نصيحته.
ورجعوا إليه في اليوم الثاني، وقد ألح عليه المرض وأشرف على نهايته، فقالوا: يا أبا طالب: إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى، فضع حداً للخصام بيننا وبين ابن أخيك، فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، ويدعنا وديننا وندعه ودينه، فقال لهم النبي(ص) وكان حاضراً ملازماً لعمه: أعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم. فقال أبو جهل: نعم، وأبيك وعشر كلمات لا كلمة واحدة، قال تقولون: لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه، فقالوا: أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحداً؟ ثم قال بعضهم لبعض: والله، إن هذا الرجل لا يعطيكم شيئاً مما تريدون.
واشتد المرض بأبي طالب، وبينما رسول الله قد انصرف في حاجة له، وإذا بالناعي قد أقبل إليه يخبره بوفاته، فمضى مسرعاً إلى البيت الذي هو فيه، فمسح جبينه الأيمن والأيسر كما كان هو يمسح جبينه، ثم قال: "رحمك الله يا عم، ربيت صغيراً، وكفلت يتيماً، ونصرت كبيراً، فجزاك الله عني وعن الإسلام خير جزاء العاملين المجاهدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم وكلّ ما يملكون"، ثم بكى وأبكى من كان معه حول أبي طالب.
لقد أحسّ أعداء محمد بالانفراج ساعة موته، وكانوا من قبل يحسبون له ألف حساب وحساب.
لقد بكى محمد، ويحقّ له أن يبكي، لأن أبا طالب كان له أباً حين فقد أباه، وعضداً وناصراً حين احتاج إلى الناصر والمعين، ودافع عنه كيد قريش وجميع محاولاتها التي كانت تعدّها لكي تبلغ منه ما تريد خلال عشر سنوات خلت لمبعثه، وها هي الرسالة التي ناصرها أبو طالب بلسانه ويده وسيفه وجاهه وجميع ما يملك، واستطاعت بواسطته أن تتسلق أسوار مكة وهضابها لتشيع وتنتشر بين قبائل الحجاز، وتنطلق منها إلى أرجاء الدنيا الواسعة، لقد أصبحت قريش تخطط لها من جديد، ومن يدري ماذا يحدث غداً بعدك يا أبا طالب.
لقد بكى محمد، واستعاد إلى ذاكرته في تلك اللحظات جميع تلك المواقف التي وقفها أبو طالب منذ كان صبياً إلى تلك المرحلة من حياته.
تذكره وهو يقدمه على جميع أولاده في صباه، ويوم تعلق بزمام ناقته، وقد أراد أن يذهب في تجارة له إلى بلاد الشام، وهو يقول له: إلى من تكلني ولا أب لي ولا أمّ ألجأ إليهما؟ وهو يقول له، والدموع تتقاطر من عينيه: والله لا أكلك إلى غيري. ثم مدّ يده وجذبه إلى صدره يشمه وأردفه خلفه، وأقسم أنه لا يفارقه أبداً. وتذكر حديث الراهب مع عمه، وكيف استولى الفزع على عمه، وفضّل أن يعود به سالماً إلى مكة، تاركاً كل مغنم تجره عليه تلك الرحلة إلى الشام. ثم تذكر وتذكر، ومضى يتذكر مواقفه مع المشركين، يوم جاءه ذات يوم وهو ملطّخ بالفرث والدم، فقام واشتمل على السيف ومعه غلامه حتى أتى الكعبة، وجبابرة قريش جلوس إلى جانبها، فلما رأوه أحسوا بالشر، فقال لهم: "والله لئن قام أحد منكم ظللته بسيفي"، وأمر غلامه أن يلطخ بالفرث والدم وجوههم وثيابهم واحداً بعد واحد. وتذكره يوم كان في الشعب محصوراً مع بني هاشم، كيف كان يحرسه في الليل والنهار مخافة أن يتسلل أحد المشركين إلى الشعب ويغتاله، وقد وزع بني هاشم على منافذ الشعب وحصن بهم حدوده، وتذكره يوم كان يضجعه في فراشه لكي يراه الناس وهو على فراش النوم، فإذا ذهب كل إنسان إلى فراشه، وأوى إلى مضجعه وهدأ الشعب في سكون الليل وسكون النوم أقبل عليه وأخذه بيده إلى فراش آخر وأضجع على فراشه احد ولده حتى إذا حدث أحد نفسه بشر لا يصاب بأذى، وتزاحمت الذكريات في ذهنه في تلك اللحظات وهو مسجَّى بين يديه، وظلّ يتذكّره طيلة حياته، وبخاصّة عندما تشتدّ قريش عليه، ولقد قال بعد ذلك: "والله ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه إلا بعد موت أبي طالب".
لقد بكاه محمد، وأبكى من كان حوله، ومضى إلى بيته مهموماً يبكي، فوجد اليد التي كانت تمسح دموعه وتشاطره آلامه وأحزانه ترتعد تحت وطأة المرض، وسقطت ميتة بعد أبي طالب بأشهر قليلة أو أيام قليلة، حسب اختلاف الروايات في ذلك، وفقد محمد(ص) خلال أشهر وأيام، عمه الذي رباه ونصره وضرب المثل الأعلى في التضحية والنصرة والرعاية خلال أربعين عاماً أو تزيد، وزوجته التي بذلت له مالها وواسته في جميع الخطوب والنكبات، وكانت تود أن تتحمل عنه كل شيء ليسلم لرسالته، وشعر محمد أن المسرات تتخلى عنه، وأن بهاء الحياة يعود أدكن مظلماً.
وجلس يبكي إلى جانبها، ويبكي معه من في البيت، وأصحابه من حوله يحاولون أن يخففوا عنه آلامه وأحزانه.
هاتان الفاجعتان الأليمتان في أشهر معدودات أو أيام معدودات، كل واحدة منهما على انفرادها، تكفي لأن تترك أقوى النفوس كليمة مضعضعة، فكيف وقد اجتمعتا على محمد(ص) في عام واحد، وأخصامه ينتظرون تلك اللحظات؟!.
ولكن محمداً (ص) بالرغم من وطأة تلك النكبة وأثرها العميق في نفسه، مضى في طريقه وتابع سيرته، وجدّت قريش في إيذائه والتنكيل بأصحابه، وكان من أيسر أنواع الأذى الذي أنزلته به بعد أن فقد عمه، أن مر عليه أحد سفهاء قريش، كما جاء في رواية الطبري، فاغترف بكلتا يديه من التراب والأوساخ، وألقاها على وجهه ورأسه، فدخل بيته والتراب قد لطخ وجهه ورأسه، فقامت إليه ابنته فاطمة(ع)، وكانت أصغر بناته، وجعلت تغسل التراب عن رأسه وتبكي، وهي حديثة عهد بتلك الفاجعة الأليمة التي تجرع أبوها مرارتها.
وكان بكاؤها موجعاً لقلبه ونفسه، والتفت إليها وعيناها تهمي بالدموع، ومسح رأسها بكلتا يديه وقال لها: لا تبكي يا بنية، فإن الله مانعٌ أباك وناصره على أعداء دينه ورسالته.
في عقيدتي، أن التاريخ ما ظلم احداً كما ظلم أبا طالب، وما أساء المسلمون إساءة أفحش وأعظم من إساءتهم إلى محمد(ص) في عمه أبي طالب.
لقد تعهد أبو طالب محمداً وهو في الثامنة من عمره، وضمه إلى أولاده يرعاه ويحرسه في ليله ونهاره، فإذا اضطر أن يخرج من مكة، تولته زوجته فاطمة بنت أسد، تجيع أولادها وتطعمه، وتتركهم شعثاً وتصلح له ثيابه وشعره وتدهنه، فما أحس بفقد الآباء والأمهات، وظل يرعاه ويحرسه ولا يفكّر في أحد سواه، حتى بعد أن شبّ وتزوج.
ولما بعثه الله نبياً، كان أول من صدّق به ودعا أولاده إلى متابعته وتصديقه، فلقد رآه لأول مرة يصلي وليس معه أحد من الناس سوى عليّ وخديجة، فذهب مسرعاً إلى بيت أخيه العباس وولده جعفر في كفالته، فدعاه وأخذ بيده إلى المكان الذي يصلي فيه النبي(ص)، وقال له: صل جناح ابن عمك يا ولدي. ومضى يدعو إليه ويهيّئ له الأنصار والأتباع، ولم يرد في تاريخه الطويل حتى على لسان أعدائه، أنه عاتب محمداً على موقفه من آلهة قريش أو دعاه إلى مهادنتها والسكوت عن عيبها، بل كان يأمر بني هاشم ويدعوهم إلى متابعته ونصرته.
فقد جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد، أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دعا بني عبد المطلب، وقال لهم: "لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد واتبعتم أمره، فاتبعوه وأعينوه ترشدوا".
وروى هذه الوصية كل من ابن الجوزي في "تذكرة الخواصّ"، والنسائي في "الخصائص" وصاحب "السيرة الحلبية" في سيرته، وغيرهم من المحدثين. فهل يمكن أن يتصور في حق أحد من الناس أن يتبنى فكرة، أو مبدأ، أو يتخذ ديناً ويناصر في الوقت ذاته أعداء فكرته ودينه ومبدئه بكلّ ما لديه من حول وطول، ويدعو الناس إلى ترك ما يؤمن به في قرارة نفسه؟!
وإذا كان مشركاً كما يدعي الأمويون والعباسيون وأنصارهم من مرتزقة الشيوخ والمحدثين، وقد وجد جفوة من قريش وقطيعة اضطرته ومن معه في الشعب إلى أكل الأعشاب وورق الأشجار كما تؤكد ذلك جميع المؤلفات في السيرة. إذا كان كما يزعمون، وقد أحاطت به تلك الظروف القاسية، فما الذي يمنعه أن يتكلم مع ابن أخيه ولو بلسان الاستعطاف والتمني عليه بأن يخفف ولو من لهجته مع آلهتها، وما الذي يمنعه من ردع أولاده عن دين محمد، أو عتابهم على أقل التقادير، وقد تسابقوا إليه منذ مطلعه؟
في حين أن أكثر الروايات قد اتفقت على أنه لما علم بنبأ الدعوة، أمر أولاده بمتابعتها، وقال لهم إن محمداً لا يدعوكم إلا إلى خير، وكان مع ذلك، يبعث فيهم العزيمة والتصميم على المضي في الطريق الذي اختاروه واختاره لهم.
وهل الإسلام شيء آخر غير الإقرار والاعتراف بإله واحد ونبوّة محمد(ص)؟! وقد تواتر عنه أنّه أقر بذلك في شعره وغيره في عشرات المناسبات، كما يبدو ذلك لكل من تتبع تاريخ أبي طالب وأخباره ومواقفه الحازمة في نصرة الإسلام.
وإني أستبعد على أي باحث يتحرى الحقّ أينما كان، إذا استعرض تاريخ أبي طالب مع الدعوة الإسلامية منذ مطلعها إلى السنة التي توفي فيها، استبعد عليه أن ينتهي إلى القول بأنه مات مشركاً على دين قريش، إلا أن يكون أموياً أو ذنباً لمشركي الأمويين الذين أرادوا أن يغطوا شركهم وشرك آبائهم بنسبة الشرك إلى أبي طالب الذي أسلم بقلبه ولسانه وعمله منذ الشهور الأولى لبعثة النبيّ(ص)، كما سنثبت ذلك خلال حديثنا هذا عن إسلامه ومواقفه في نصرة الإسلام.
وجاء عن أبان بن محمود أنه قال للإمام علي بن موسى الرضا(ع): جعلت فداك، إني قد شككت في إسلام أبي طالب، فكتب إليه: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ...}، ثم قال: "إنَّك إن لم تقر بإيمان أبي طالب، كان مصيرك إلى النار".
وجاء عن الإمام محمد بن عليّ الباقر أنه سئل عما يقوله الناس إن أبا طالب في ضحضاح من نار، فقال: لو وضع إيمان أبي طالب في كفة، وإيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى، لرجح إيمانه.
وجاء عن أبي بكر أنه جاء بأبيه أبي قحافة إلى النبي عام الفتح يقوده وهو شيخ أعمى، وكان قد بقي على شركه لذلك التاريخ، فقال رسول الله(ص): أما تركت هذا في مكانه حتى تأتيه؟ فقال له أبو بكر: "أردت يا رسول الله أن يأجره الله. والذي بعثك بالحقّ، لأنا كنت أشدّ فرحاً بإسلام عمك أبي طالب مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرّة عينك".
وقال علي بن الحسين زين العابدين في جواب من يتردّد في إسلام أبي طالب، جاء عنه أنّه قال: "وا عجباه، إنّ الله تعالى نهى رسوله أن يقرّ مسلمة على نكاح كافر، وكانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام، وبقيت تحت أبي طالب إلى أن مات".
وروى الرواة عن النبيّ(ص) أنه كان يقول: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة"، يعني بذلك أبا طالب، إلى كثير مما جاء عن النبيّ(ص) وغيره من الصحابة والأئمة تصريحاً وتلميحاً في إسلامه وإيمانه بالرسول(ص).
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع